أسامة الألفى بغياب السياسي السوري الأصل عبد الحميد السراج، نائب الرئيس جمال عبدالناصر، في أول تجربة وحدوية عربية شهدها العصر الحديث تحت اسم "الجمهورية العربية المتحدة"، تنطوي صفحة مجيدة من تاريخ إنسان آمن بوحدة أمته وعمل من أجلها حتى النفس الأخير. مات السراج عن 88 عامًا، ورحل في صمت مثلما عاش سنواته الأخيرة، ومن المصادفات أن تجيء وفاته قبل ستة أيام من ذكرى رحيل قائده ومعلمه جمال عبدالناصر، ولم يكتب السراج مذكراته ولم يزايد على وطنيته كما فعل كثيرون غيره، وإنما ظل وفيًا للفكر الذي آمن به والقائد الذي اتخذه مثله الأعلى، وعاش في مصر حاملاً جنسيتها، رئيسًا لهيئة التأمينات والمعاشات إلى ما قبل سنوات حتى أجبره الزمن والعمر على التقاعد والتوارى في هدوء. حكاية السراج مع عبد الناصر بدأت بنجاح الأول في إفشال ما عُرف ب"المؤامرة العراقية" لإسقاط الوحدويين في سوريا عام 1956، إذ لفت إخلاص الضابط الشاب عبد الحميد السراج، لحلم الوحدة انتباه الزعيم الذي كانت الوحدة الغاية التي كرس لها حياته، لهذا فما كادت الوحدة بين مصر وسوريا تتم عام 1958، حتى بادر ناصر بتعيينه وزيرا للداخلية، ليكون عينيه وأذنيه وذراعه الحديدية بالإقليم الشمالي، إيمانًا منه بقدراته البوليسية والاستخباراتية التي تبدت خلال رئاسته "المكتب الثاني"، وبالفعل نفذ السراج ما أراده عبد الناصر وبدأ نفوذه في الإقليم الشمالي يتنامى، ومع تناميه بدأ الصدام مع نائب عبدالناصر في حكم سوريا المشير عبد الحكيم عامر، مما حدا بناصر وقد أدرك بذكائه استحالة استمرار الرجلين العسكريين معا إلى التدخل، ولم يكن بمقدرته أن يتدخل ضد رفيق عمره ونائبه الأول وقائد جيشه، لذا كان قراره بإبعاد السراج إلى موقع آخر، عبر ترقيته نائبا لرئيس الجمهورية بصلاحيات بسيطة، أي أعطاه كما يقول المثل الإنجليزي "شلوت لفوق". وقد سعى الكثيرون في محاولة لتبرئة ذمة عبد الناصر وعامر من تهمة التسبب في انفصال سوريا في 28 سبتمبر 1961، إلى إلصاق التهمة بالسراج مؤكدين أن سياسة القبضة الحديدية التي اتبعها، هي ما أدت إلى قيام الانقلاب ومن ثم فشل أول تجربة وحدوية عربية معاصرة، وهو اتهام يجانب الواقع والحقيقة، وينفيه أول ما ينفيه أن قائد الانقلاب عبد الكريم الحوراني، كان من أقرب مساعدي المشير عبد الحكيم عامر، إذ كان مدير مكتبه. وأنا هنا لست بصدد تبرئة السراج من الخطأ، فقد كانت له أخطاء بلا شك، ولكنها كانت من بين عوامل عدة أدت للانفصال، ولم تكن سببًا مباشرًا فيه، ويأتي في مقدمة هذه العوامل، أن الوحدة قامت على أسباب عاطفية أكثر منها عملية وعلمية، فلم تصمد لعوامل الزمن والممارسات السياسية الخاطئة والكيان البوليسي الذي كرسته قيادة دولة الوحدة، إذ لم يفهم النظام الناصري أن الوحدة لكي تستمر يجب أن تعطي للمواطن في الإقليمين نفس الدرجة من الاهتمام والاحترام، فنقل الوزارة السورية للقاهرة غير عابئ بما يمثله هذا من جرح لمشاعر السوريين، وعمد لتأمين حكمه عبر وضع مصريين في مواقع حساسة داخل السلطة المدنية والعسكرية بالإقليم الشمالي، وقد تعالى بعض هؤلاء على زملائهم السوريين، مما نشر السخط بين الأخيرين، بل إن حالة السخط تنامت حتى بلغت الجيش بعد حركة تصفية لكفاءات قديمة من الجيش السوري، ذلك الجيش الذي كانت قياداته سببًا في قيام الوحدة، كما تم نقل بعض المشروعات من الإقليم الشمالي للإقليم الجنوبي، وكذلك نقلت صفقات سلاح سوفيتية كانت مقررة للجيش السوري ووجهت للجيش المصري، وجاءت قرارات التأميم في يوليو 1961، لتضيف إلى أخطاء القيادة السياسية خطأ جديدًا، إذ إن هذه القرارات لم تأخذ في اعتبارها الاختلاف الحاصل في طبيعة القطرين الاقتصادية، فكان في هذه العوامل ما سرّع قيام قادة الانقلاب عبد الكريم النحلاوي، وحيدر الكزبري، وموفق عصاصة، بعمليتهم، وما استتبع هذا من حصار استراحة المشير عبد الحكيم عامر، ثم فك الحصار والسماح له بالعودة للقاهرة بعد إنذار قوي من ناصر. ولعل في اعتقال قادة الانفصال لعبد الحميد السراج، ووضعهم إياه في سجن المزة ما يعطي انطباعًا بمدى تخوفهم منه، واستعدادهم لتصفيته في الوقت المناسب، وهو ما أدركه عبد الناصر، فبادر عبر معاونيه بتنفيذ خطة لتهريبه مع حارسه إلى بيروت ومنها إلى القاهرة، وكانت خطة ناجحة وضعها رجل المخابرات الكبير اللواء محمد نسيم (صانع رأفت الهجان) وشارك في تنفيذها وسامي شرف، وعبد المجيد فريد، تمت بموافقة رئيس لبنان اللواء فؤاد شهاب، وبمشاركة السياسي الوحدوي اللبناني كمال جنبلاط، ومن سجن المزة إلى مطار بيروت إلى القاهرة كانت رحلة الهروب الناجحة، واستفاق الشعب صبيحة اليوم التالي على خبر موجز نشرته جميع الصحف دون تفصيلات:"استقبل السيد الرئيس جمال عبدالناصر السيد عبد الحميد السراج". يرحم الله السراج ويتجاوز عن أخطائه فقد وهب حياته لحلم الوحدة العربية، وحين مات حلمه ماتت آماله، فعاش في صمت ومات في صمت، وهكذا تكون مصارع الرجال.