تحقيق مصطفى عبادة فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى واجهت مصر موجة إرهابية عاتية، وكانت المواجهة فيها تعتمد على شقين: الأمنى والثقافى، على المستوى الثقافى أنجزت الدولة مشروع التنوير نشرت فيه أهم الكتب الفكرية والثقافية، لكن يبدو أن هذا المشروع فشل، بل وأسهم فى شعبية التيارات الدينية، بدليل أن كل انتخابات جرت بعد ثورة 25 يناير، فاز فيها الإخوان، الآن الدولة المصرية تواجه المأزق نفسه، فهل هى فى حاجة إلى مشروع ثقافى تنويرى جديد؟ ومن يقوم به، هل هي نفس النخب التى أفشلت المشروع السابق، أم إن هناك نخبة جديدة فى مصر، لا يعرفها أحد وما طبيعة المشروع الجديد لمواجهة التطرف والإرهاب هل هو النهوض بالتعليم أم العدالة الاجتماعية أم ماذا بالضبط، هذا ما سنعرفه فى التحقيق التالى.. كعادته يأخذنا المترجم شوقى جلال إلى الوراء قليلاً ليحدد أصل المشكلة، فالأمر كما يقول يحتاج إلى نظرة تاريخية، فمصر كانت تعيش فى قلب جاهلية ثقافية وأمية، تحت ظلال الخلافة الإسلامية، حتى مجئ محمد على، ومنذ محمد على ظل الإنسان المصرى فى صراع بين تيارين الأول ما يمكن تسميته إجمالاً: الإسلام السياسى، والثانى تيار التحديث، الأول كان يدافع عن فكرة الخلافة ولايزال، كما لدى الإخوان ومن يشايعونهم، والتيار الآخر التحديثى، ظل ناضجاً ومخلصاً لأفكار التقدم والحداثة والعدالة الاجتماعية حتى نهاية القرن العشرين، لكنه الآن ضعيف. أما عن مشروع التنوير الجديد، فيتساءل شوقى جلال من هم التنويريون الآن الذين سيقومون به، هل هى أحزاب اليسار السبعة، ولماذا لا تجتمع فى حزب واحد؟ أم هل هم أحزاب التيار المدنى؟ ولماذا لا يجتمعون فى حزب واحد، من أجل هدف حقيقى أولاً، وهو التغيير الموضوعى فى الظروف المعيشية والحياتية للمجتمع، ومن أجل النهوض بالتعليم، ومن أجل حركة إصلاح دينى، فمن دون ذلك لن يحدث شىء، لأن فاعلية الدين وتأثيره لم تتغير، ولأن المجتمع نفسه بالتالى لم يتغير منذ ألفى عام، فالتنوير، يعنى رفض الواقع المتخلف، والطموح إلى خلق واقع جديد، والمجتمع الجديد يعنى الطموح المعرفى والمغامرة المعرفية. أمس الجمعة 6 سبتمبر مرت من أمام منزلى، فى شارع أحمد عرابى، يقول شوقى جلال، مسيرة لأتباع الإخوان، كانوا فى منتهى الحماسة ربما كانوا مغرراً بهم، ربما كانوا مقتنعين، لكنني سألت نفسى: هل يستطيع أى حزب مدنى أن يخرج مسيرة كهذه؟ هل يستطيع حزب التجمع مثلاً إطلاق مسيرة مثل هذه تدافع عن قيمه، وما يتبناه من أفكار تدافع عن الناس فى الأساس، للأسف الشديد أشك فى الإجابة بنعم. أستاذ الفلسفة، بجامعة القاهرة، د. على مبروك، يرى أن المشكلة ليست فى الناس أو جمهور المصريين، بل المشكلة فى النخبة نفسها، فالشارع أكثر تقدماً من كل هذه النخب وهذا ما أظهرته ثورة يونيو بالتحديد، بل وكشفت عقم هذه النخبة، فالنخبة الليبرالية مثلاً تتكلم عن عدم الإقصاء للإخوان، بينما الشعب لديه نظرة جذرية لهذا الأمر. ويشرح د. على مبروك فكرته قائلاً: نحن فى حاجة إلى مصطلح جديد، وخطاب جديد، فالتنوير ليست الكلمة المناسبة لما نمر به الآن فى مصر، والوطن العربى، فاللحظة الراهنة هى لحظة نهاية خطاب استمر لمدة قرنين، وثبت عجزه عن تغيير الواقع على نحو حقيقى، الخطاب الجديد الذى أعنيه لن يتوجه إلى الناس، بل إلى النخبة نفسها فالمشكلة ليست فى عجز المجتمع فهو أكثر تقدماً من كل النخبة بعقلها الموبوء، وهى نخبة لديها حساباتها، فهى تعمل بطريقة قياسية فقهية طوال الوقت، أى تقيس كل مشكلة على سابقة لها، وتحاول حلها بالطريقة القديمة نفسها، هل يصح هذا مع الواقع المصرى الجديد؟ الحل فى رأيى هو التخلص نهائياً من كل هذه النخب العاجزة التى لا تتعلم من أخطائها أبداً، والتى دائماً ما يضعها الشعب البسيط في مأزق. الشاعر رفعت سلام، يرى من ناحيته أنه لابد أن نعرف أولاً لماذا فشل مشروع تنوير الثمانينيات والتسعينيات، ويرى أنه فشل لأنه قام على أساس فاسد، ولأن السلطة كانت تقوم بنشر الكتب فقط، وهى سلطة كانت فاسدة مفتقدة للمصداقية وفوق ذلك، فإن هذه الكتب ذهبت إلى المثقفين الذين لا يحتاجون إليها، ولم تذهب إلى رجل الشارع المستهدف من المشروع، كما تم اختيار هذه الكتب للنشر بطريقة عشوائية خاضعة لمزاج مسئولى النشر، والنافذين فى وزارة الثقافة فى ذلك الحين، مما أدى إلى لا جدوى المشروع، برغم أهمية بعض الكتب التى تم نشرها، إذن فهو كان مشروعاً فوقياً لم يذهب إلى أصحابه، وربما تم استنزاف المال العام فى محاربة الإرهاب. ما نحتاج إليه الآن، فى رأي رفعت سلام، هو أولاً مؤتمر مصغر من قبل المثقفين أنفسهم دون أية ضغوط سلطوية عليهم لوضع الأسس المنهجية لمثل هذا المشروع، الذى لابد أن تشارك فيه وبشكل قوى وزارة التربية والتعليم وأجهزة الإعلام (التليفزيون تحديداً) يمكن لذلك أن ينتج مشروعاً قوياً، لكن إن لم تتجه الدولة إلى مسار ديمقراطى حقيقى، وإن لم يشعر المواطن العادى بتغيير إيجابى فى ظروفه المعيشية، وإن لم يتم استئصال الفساد من المؤسسات كافة، فسيلقى هذا المشروع المصير نفسه. لكن وزارتى التعليم والإعلام كانتا مشاركتين فى المشروع القديم، فما الجديد؟ نعم كانتا مشاركتين لكن بالتمويل فقط وربما بالدعاية لكن هذه المرة لابد أن تكون المشاركة جذرية بأن تقرر هذه الكتب فى مختلف المراحل التعليمية، وأن يتم تغيير المقررات وتعديلها لتتوافق مع هذه الأخطار تلك هى المشاركة التى تضمن فاعلية مشاركة وزارتى التربية والتعليم والإعلام. الشاعر السماح عبدالله، مدير تحرير مجلة الفكر المعاصر، وأحد العاملين فى مشروع التنوير القديم فى هيئة الكتاب يقول: الجزم بفشل المشروع الثقافى الذى قامت به المؤسسة الثقافية الرسمية فى مطلع التسعينيات (لا أحب تسمية المباركية) فيه قدر كبير من المغالطة، فقد كان ركاب المترو يقرأون كتابات على عبدالرازق ومحمد عبده وقاسم أمين، ولا أبالغ إذا قلت لك وقد كنت أحد المساهمين فى هذا المشروع إن هذه الكتب طبع منها عشرات الآلاف فى طبعات عديدة، وأنت لا تستطيع أن تضع فرضية تاريخية بأن هذه القراءات لم تحل بين عقول من قرأوها وبين غزو الأفكار المتزمتة التى كانت تحاصرنا من ميكروفونات المساجد فى كل حوارى مصر، بالتأكيد كان لها تأثير كبير، إن لم يكن فى وجدان الرجعيين والمتزمتين وأبناء السمع والطاعة، فعلى الأقل فى وجدان من يمكن أن ينجروا إلى هذه الأفكار، فهذه الكتابات المؤسسة التى وضعتها عقول مصر فى بداية القرن العشرين كانت تحتفى بقيم الحق والعدل والجمال، وأظن أن الشباب الذين قرأوها تأثروا جمالياً على الأقل بهذه الرؤى الفكرية وقد كنت أقابل كثيراً من هؤلاء الشباب الذين يأتون لهيئة الكتاب ويناقشوننا فى هذه الأفكار. ويضيف السماح عبدالله: الفعل الثقافى إذا وصل لمتلقيه لا أظن إلا أنه سيكون فاعلاً ومؤثراً بشكل لا يمكن تصوره. أما عن سؤالك الجديد، ماذا نفعل الآن فى مواجهة التطرف، أقول إن على كل منا دوراً ينبغى القيم به، الثقافى يطرح رؤاه التاريخية والمعاصرة، التعليمى يضع مناهج ترسخ لقيم التسامح ونبذ العنف، السياسى يعمل على إقامة العدالة الاجتماعية، الإعلامى يقف بالمرصاد لكل خارج على أعراف المجتمع المصرى، ولكل حاملى السلاح حتى لو كان مجرد مطواة صغيرة، يجب اللجوء إلى تغليظ العقوبات الخاصة بمروعى الآمنين، وفى الأخير إذا استطاعت الدولة أن تحقق قدراً من العدالة الاجتماعية بين الناس، والقضاء على البطالة، نستطيع ساعتها أن نقف على شواطىء الأمل.