تصوير موسى محمود - فى ليلة الخميس، 12 يناير جاء على الحجار إلى الأهرام، التى سبقت الجميع فى الاحتفال بالثورة، بالحفل الذى أقامته الأهرام العربى، وشدا فيه على الحجار بأجمل أغانيه، خاصة تلك التى ترددت أيام الثورة مثل “اللى بنى مصر .. كان فى الأصل حلوانى “ وأحدث أغانيه التى أنجزها تحية للثورة وشهدائها، والتى ستطرح قريبا فى ألبوم خاص يحمل اسم “اصحى ياااناير" ... فنان كبير مثل على الحجار، ليس صوته فقط، وليس فنه فقط، إنما لاتساق مواقفه الإنسانية والوطنية، المنحازة للحرية والعدل والحق والخير والجمال، المنحازة للثورة .. الثورة على الديكتاتورية وعلى الفساد وعلى الانحطاط بكل أنواعه خاصة الانحطاط الفنى، الذى أنتج فنانين أو بمعنى أدق أشباه فنانين – كانوا جزءا من النظام الذى أفرزهم وجعلهم أبطالا بل وزعماء، فبقدر ما كانوا يزيفون وعى أمة من أجل تثبيت أركان نظام واه، بقدر ما كان قدرهم ... وفى الحقيقة أنه لا يمكن محاسبة فنان على مواقفه السياسية بالخصم أو الإضافة من فنه بسبب تلك المواقف، وبالتالى لا يمكن أن تأخذ موقفا فنيا حادا من الذين أيدوا النظام، فلا يمكن أن ترفض فنهم، من أجل خيبتهم المضادة للثورة، ولكن من الغريب جدا وربما من قبيل “المصادفة الكاشفة" أن غالبية إن لم يكن كل الفنانين الذين وقفوا مع نظام مبارك وهاجموا الثورة، كانوا أنصاف فنانين .. أو لا فنانين أصلا .. وأنت لا يمكن أن تجد أثرا فنيا حقيقيا لواحد مثل “طلعت زكريا" أو واحدة مثل عفاف شعيب وأمثالهما من الذين حاولو أن يجهضوا الثورة باسم الفن، دون أن يفهموا أن الثورة كانت ولاتزال، ليست ثورة فقط ضد المخلوع شخصيا، بل ضد كل ما يمثله ومن ذلك الفن الهابط الذى يتساوى مع السياسة الهابطة والاقتصاد الهابط وربما يكون أخطر سلبا وتدميرا .. وحين نعود لأيام الميدان ال 18 المجيدة، أتذكر أن الثوار كانوا يضحكون وهم يسمعون "تفاهات المحسوبين على الفن ". لكنى أتذكر أن جزعا ما، أصاب الثوار حين سمعوا أن الفنانة الكبيرة شادية قالت أو نسب إليها أنها قالت ما يسىء للثورة وللثوار . ولحظتها عاقبها الثوار والميدان "عقابا جميلا ورقيقا " حين غنى الجميع :" يا أحلى البلاد يا بلادى .. بلادى " ففنها كان أعظم من موقفها، وصوتها كان أعمق من كلامها، كان ردا جميلا ورقيقا . ومدهشا . فالذاكرة الجمعية الغنائية المصرية تعرف كيف تنتقى وكيف تحتفظ فى داخلها ما يعينها على الظلم وما يدفعها إلى مقاومته، وأنا شخصيا استغربت جدا وأنا أرى شبابا وصبية ولدوا فى التسعينيات .وهم يرددون أغانى سيد درويش مثل "أنا المصرى" وحتى "يا بلح زغلول " .. كانت أغانى سيد درويش هى الصوت الأول فى الميدان. نقلتها ذاكرة الأجداد إلى وعى وحناجر أحفاد الأحفاد، وكأن الأجداد الذين حاربوا الاستعمار والانجليز والحكم الملكى، كانوا يلقونها لأحفادهم ليقاوموا بها الاستعمار المباركى ... ومن الغريب أيضا أن الميدان استدعى أناشيد الفنان الكبير "على إسماعيل " . وكنت وأنت فى الميدان تكاد تبكى وأنت ترى طفلة دون العاشرة من بولاق تبكى فعلا وهى تسمع شباب عائلتها مع أصدقائهم وهم يغنون :" باسمك يا بلدى يا حلوة يا بلدى .. يا غالية على .. ياحلوة يا بلدى " ... وكان من الطبيعى أن تجد أغانى الشيخ إمام حاضرة وكأنه هو بصوته وشحمه ولحمه حاضر يغنى "مصر يا امه يا بهية .." و" واتجمعوا العشاق فى سجن القلعة .." كل الأغانى .. تلك غنتها أجيال لم تعش السنوات التى ولدت فيها هذه الأغانى .. ولهذه الملحوظة يمكن أن تجد تأكيدا من أن التاريخ المصرى الممتد لا يعترف بالمراحل، ولا يضع حدودا فاصلة بين الأجيال، ويمكنك أن تقول مطمئنا ليس صحيحا أن شباب الثورة لا أب لهم، وأنهم تأثروا فقط بوسائل الاتصالات التى أتاحت لهم رؤية العالم الخارجى منذ نعومة أظافرهم فجعلوه مثلا فيما يمثل من حريات، حاولوا تطبيقه فى بلدهم .. لا فشباب الثورة هم امتداد لكل ما هو جميل فى مصر بما فى ذلك أغانيها، وهم الذين لم يرتبطوا بأيديولوجيات ونظريات وانحيازات بالية، انحازوا فقط لمصر ولشعبهم، وعرفوا أن من حق البلد عليهم ومن حق الشعب أن يثوروا .. ووسط الثورة وفى قلب الميدان وقبل وبعد موقعة الجمل ومع المعارك والمخاوف ومع الألم والأمل ومع الشهداء والمصابين كانوا يغنون ويستدعون كل ماهو حقيقى فى غناء مصر . وكان الحقيقى قديما نوعا ما، ولم يستدع الميدان سوى صوتين آخرين هما صوت محمد منير وصوت على الحجار . وفى غير هذه المناسبة سوف أتحدث عن العبقرى محمد منير وهو حديث لا يختلف كثيرا عن الحديث عن على الحجار، صاحب الصوت الأقوى والأكثر جمالا ورونقا وامتداد، وأنا أقصد "امتدادا"، فأنا من الناس الذين يعتقدون أن صوت على يرتفع ويسمو حتى بعد أن يصمت، وعلى هو الذى جعلنى أحب حروف المد فى اللغة العربية، منذ أن سمعته لمدة 3 دقائق يغنى فقط “يا حبيبى “ .. فى جلسة خاصة فى الأودويون عام 1992، وكنا نطل وقتها على فجر القاهرة ومن يومها ارتبط صوت على عندى بالفجر . على لا يعرفنى وأنا لا أعرفه، لكننى أعيش صوته كما عشته ونحن نردد بعد التنحى فى ميدان التحرير "اللى بنى مصر كان فى الأصل.. حلوانى وعشان كده مصر يا ولاد حلوة الحلوات ". وأنت مهما عشقت هذه الأغنية، فستجد لعشقك بعدا آخر وأنت تسمعها وتشارك فى غنائها مع ملايين المصريين فى ميدانهم . ومن الغريب والأكثر دهشة أن الجميع كان يتمثل صوته، فكأن صوته وهو خارج مصر، توزع على كل المصريين، وهم يجربون للمرة الأولى الفرح بذهاب المخلوع وانتصارهم . وأقول يجربون ... لأن الأيام مضت .. مضت فى عكس اتجاه الثورة وتاهت الثورة أو أريد لها أن تتوه ومعها اختلف الميدان – لأسباب حين نعرفها سيطول شرحها- وكثيرون باتوا يعرفون ويشعرون أن ميدان الثورة، لم يعد هو الميدان . تتالت الأيام والجمع ونحن نبحث عن المفقود فى ثورتنا وميداننا ونحاول أن نسترد المشاعر التى كنا نحسها فى الأيام ال 18 المجيدة، حتى خيل لبعض اليائسين منا، أن الثورة هى التى "خلعت" وصارت هى "السابق". ولكن لا يعرف المرء قدرة هذه البلاد، ولايعرف أن الميدان كان يحفظ مشاعر من صدقوا، ويخبئها عن الذين يريدون استغلال الثورة أو هدمها أو قتلها أو ركوبها أو اختطافها .... الميدان كان يحفظ المشاعر وحين جاءت ليلة رأس السنة استدعى الميدان الصادقين ومنحهم مشاعرهم ورفت روح الميدان مع الاحتفال بالسنة الأولى بعد الثورة، وجاء على الحجار وغنى .. وغنى .. وغنى .. وتوزع صوته مرة أخرى على إحساس الصادقين فى الميدان . وكان أجمل احتفال برأس سنة شهدته مصر فى كل عصورها والميدان لا يكذب، والكاذب لا يستطيع أن يغنى فى ميدان تحرير، ومن أجل ذلك ستجد نفسك تضحك حين تسمع أن تامر حسنى يغنى للثورة . ولكنك إن لم تبك، ستلحظ دموع من حولك وهم يسمعون على الحجار يغنى للمناضل أحمد حرارة : لو ضى عينى مازارش عينى والدنيا نورها كله يجافينى أنا ضى روحى وضى قلبى مصرى واسمه أحمد حرارة وهى واحدة من الأغنيات التى غناها على فى حفلة "الأهرام العربى"، التى سبقت الجميع فى الاحتفال بالثورة ومن خلال صوت الثورة، وفى حدود علمى فإن هذه المرة الأولى التى يغنى فيها فنان فى حفل عام فى الأهرام هى قبلة الفنانين والمبدعين فى مصر والعالم العربى .. غنى على الحجار لسيد حجاب والأبنودى وناصر رشوان وكثيراً من أغانيه الجديدة من ألحان أو توزيع ابنه أحمد على الحجار. وقد حدث أن على وهو يشير إلى أن ابنه لحن إحدى الأغنيات مازحه أحد محبيه وقال " كفاية توريث" وضحكنا .. والفن لا يورث إنما يمتد وقد يمتد من والد لابن فى مصادفات تاريخية نادرة، ونحن نعرف أن الفن لم يمتد من على لابنه فقط، فصوت على نفسه امتد من صوت أبيه المرحوم إبراهيم الحجار .. وأنا شخصيا أذوب وجدا حين أرى ذلك التسجيل للمرحوم إبراهيم الحجار بين على وأحمد وهم يغنون "عزيز على القلب" .. وفى هذه اللحظة لا أتذكر صوت الحجار الكبير فقط، إنما أتذكر حتى خلجات روحه التى تنعكس على وجهه وهو يغنى .. مستندا ومتكئا على ابنيه، فى الحفلة التى غادر الحياة بعدها، إن الحجار الكبير نفسه، قصة مصرية خالصة، لكفاح آبائنا المخلصين الذين عاشوا مدافعين عن الذى يؤمنون به، ولم ينحنوا بحجة تربية الأولاد، بل قبضوا على الجمر وناضلوا بكبرياء من أجل أن يربوا أولادهم، تربية مصرية حقيقية، تنتج ثمرا مصريا ولو بعد حين، ورغم كل الظروف والآلام وبكبرياء إبراهيم الحجار ظهر على الحجار فى الثمانينيات ليصبح واحدا من أهم أصوات مصر المخلصة ..الطاهرة النقية المبدعة .. وقد كنت أتمنى وأنا أستمع لعلى فى الأهرام، أن أربت على كتف الفنان الكبير الراحل إبراهيم الحجار وأردد على مسامعه الآية الكريمة : " فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض " وقد مكث صوتك وصوت أبنائك وصوت أحفادك .. وذهب مبارك جفاء ..