فى الأزمات الكبرى غالبا ما تختلط المواقف والتصريحات والاختيارات والاحتمالات. وفى التطورات الأخيرة للتوتر بين الولاياتالمتحدةوإيران يبرز توجه مهم لاحتواء التصعيد العسكرى والتمهيد لنوع من الاتصالات بين طرفى الأزمة، برغم غموض المؤشرات الفعلية. تصريحات الرئيس ترامب تجسد هذا التداخل والاختلاط بين مؤشرات متضاربة، حيث مزجت بين تهديد إيران بأن تدفع ثمنا عاليا إذا ما هاجمت المصالح الأمريكية فى المنطقة، وبين التأكيد على أمرين متلازمين؛ وهما عدم نية واشنطن إسقاط النظام الإيرانى، وعدم النية لبدء حرب، مع تأكيد بأن كل الضغوط الاقتصادية التى تمارسها بلاده ضد إيران هى بهدف كبح أنشطتها الخارجية ومنعها من امتلاك أسلحة نووية. وأخيرا أضاف الرئيس ترامب فى المؤتمر الصحفى مع إمبراطور اليابان الجديد فى طوكيو الاثنين الماضى، قناعته بأن أمريكا تريد التفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق جديد، وأنه مستعد لمثل هذه المفاوضات، والتى ستجعل إيران بلدا جيدا حسب وصفه. النيات الأمريكية بشأن الاستعداد لمفاوضات مع إيران ليست جديدة فى حد ذاتها، فقبل عشرة أشهر، وفى خطاب شهير لوزير الخارجية الأمريكى بومبيو، حدد الأهداف الرئيسية التى دفعت الرئيس ترامب للخروج من الاتفاق النووى الإيرانى للعام 2015، بأنها لغرض إعادة التفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق جديد يسد أوجه النقص والعوار القائمة فى الاتفاق النووى، الذى تم التوصل إليه فى عهد الرئيس السابق أوباما، وهى ثلاثة رئيسية، الأول أن يتضمن الاتفاق الجديد التزامات إيرانية دائمة بالتخلى عن الأنشطة النووية، وتقييد خطوط تخصيب اليورانيوم لديها، والثانى أن يعالج الاتفاق الجديد مخزون وصناعة الصواريخ الباليستية التى تمتلكها إيران بهدف التخلص من هذه الترسانة الصاروخية، والثالث أن تقبل إيران التزامات واضحة بالتخلى عن أذرعها وامتداداتها النشطة فى عدة بلدان عربية كلبنان والعراق واليمن، وألا تمارس أية أنشطة تقلق حقوق الجيران فى الأمن والسلام. هذه الأهداف الأمريكية الكبرى لم تكن لتمر إلا إذا أجُبرت طهران على الجلوس مع الطرف الأمريكى. وهو ما تتصور إدارة ترامب أنه لن يحدث إلا فى ظل ضغوط اقتصادية وعسكرية عاتية، تزيد من حدة الأزمة الداخلية فى إيران، بحيث تدفع قيادتها إلى التفاوض على المطالب الأمريكية إما من أجل توقيع اتفاق جديد أكثر شمولا، أو إحداث تعديلات فى نص اتفاق 2015، بإضافة ملاحق تتضمن القضايا الجديدة. وفى كثير من تغريدات وتصريحات الرئيس ترامب ما يكشف عن قناعته بأن العقوبات الاقتصادية التى فرضها على إيران، وأصابت فى العمق الاقتصاد الإيرانى، تستهدف الوصول بالصادرات النفطية الإيرانية إلى حد الصفر، وما تشكله من صعوبات حياتية للشعب الإيرانى وأيضا لمنظومة الحكم، وكذلك تصنيف الحرس الثورى الإيرانى كمنظمة إرهابية، قد بدأت تؤتى أكلها، على الأقل فى الحد من بعض الأنشطة الخارجية التى تمولها إيران، وبالتالى فليس أمام طهران سوى الجلوس مع المفاوضين الأمريكيين. فى الجانب الإيرانى، يمكن رصد اتجاهات عدة تتكامل أحيانا وتتقاطع أحيانا أخرى. والموقف الجامع، حدده المرشد الأعلى خامنئى بأن بلاده لن تحارب وأيضا لن تفاوض، وليس لديها سوى المقاومة والصمود أمام الضغوط الأمريكية. محللون إيرانيون يرون أن إيران طوال العام الماضى، وبعد أن ألغى الرئيس ترامب الاتفاق النووى بصورة أحادية، اتبعت سياسة “الصبر الإستراتيجى”، بمعنى الاعتماد على قدرات الشعب الإيرانى فى التحمل والصمود، إلى أن يمر الزمن وتتراجع الضغوط الأمريكية. لكن ما حدث هو أن الضغوط الأمريكية ارتفعت وتيرتها بين فترة وأخرى، وإذا استمرت بهذه الوتيرة فسيتطلب الأمر من النظام الإيرانى تعديل جذرى أو تغيير سياسة “الصبر الإستراتيجى”، استنادا إلى أن هناك سقفا معينا من الضغوط الحياتية يمكن للشعب الإيرانى تحمله، وبعد ذلك يتطلب الأمر نهجا جديدا. أو التعرض للانهيار وسقوط النظام من الداخل، وإن كان هذا الاحتمال يبدو متعذرا فى ظل الظروف الراهنة. التأكيد الإيرانى على نية عدم البدء بالحرب، التى تتطابق مع تصريحات الرئيس ترامب، يضع الأزمة برمتها على مسار سياسى لكنه يظل متوترا، وفى حال أزمة تبحث عن مخرج. مع ملاحظة أن الإيرانيين يمارسون عملية توزيع الأدوار، فإلى جانب سياسة لا حرب ولا تفاوض، التى أكد عليها المرشد الأعلى، وكررها الرئيس حسن روحانى، تستمر تصريحات وتهديدات القادة العسكريين وقادة الحرس الثورى وقوامها، أن لديهم إمكانات تستطيع أن تدمر القطع البحرية الأمريكية فى الخليج، كما تستطيع أن تغلق مضيق هرمز أمام الملاحة الدولية، لا سيما صادرات النفط من الدول المطلة على الخليج. والرسالة هنا مزدوجة، شقها الأول مُوجه إلى الرأى العام الإيرانى بهدف رفع المعنويات والتأكيد على جاهزية قواته المسلحة لرد أى عدوان وحماية البلاد، والشق الثانى باتجاه الولاياتالمتحدة، بأن أى عمل عسكرى ستكون له نتائج وخيمة على القطع البحرية الأمريكية، وبما يقنع القادة الأمريكيين بأن الأسلم لهم عدم التفكير فى عمل عسكرى بأى حال. وبين الحين والآخر يخرج مسئول عسكرى ويرفض إمكانية التفاوض مع الإدارة الأمريكية، لأن لا فائدة منها ولا ثمرة، حسب قول على فدوى، نائب قائد الحرس الثورى. وفى جانب ثانى تتخذ حكومة حسن روحانى خطوة ذات دلالة، حيث تخففت من بعض الالتزامات الواردة فى الاتفاق النووى، تتعلق برفع نسبة تخصيب اليورانيوم وعدم تصدير المخزون إلى الخارج. وهى رسالة إلى الدول التى لا تزال تتمسك بالاتفاق النووى برغم الموقف الأمريكى الأحادى المناهض له، خصوصا الأوروبية، بهدف حثها على تقديم ضمانات أكبر جدية للالتفاف على العقوبات الأمريكية حتى تستمر طهران ملتزمة بالبنود الأخرى. ومن جانب ثالث تنشط الدبلوماسية الإيرانية فى اتجاه دول رئيسية فى المنطقة كالكويت والعراق وقطر وعمان، وعواصم كبرى كطوكيو وموسكو وبكين وإسلام أباد ونيودلهى، بهدف بحث مواقف تلك الدول وحدود تضامنها مع إيران لمواجهة الضغوط الأمريكية، وبما يجعل التزام إيران بالاتفاق النووى له تداعياته الإيجابية على قدرة إيران فى احتواء الضغوط الأمريكية. وفى الآن نفسه اكتشاف إمكانية تنشيط قنوات اتصال غير مباشرة مع الجانب الأمريكى لفتح ثغرة فى جدار الأزمة تحفظ ماء الوجه الإيرانى.إضافة إلى تمرير رسائل بأن إيران منفتحة على اقتراحات الحوار وخفض التوتر، وفقا لتصريحات جواد ظريف فى بغداد الاثنين الماضى. وفى تلك الزيارة أكد قادة العراق استعدادهم للعب دور وساطة من أجل إبعاد شبح الحرب وإنهاء التوتر، مدفوعين بأن احتمال الحرب ستكون له انعكاسات دامية على العراق ذاته، نظرا لحقائق الوضع الداخلى حيث ينتشر النفوذان - الإيرانى والأمريكى - على مجمل الساحة العراقية. وبالرغم من نفى الخارجية الإيرانية وجود أى اتصالات مباشرة أو غير مباشرة مع الجانب الأمريكى، فإن التحركات الدبلوماسية الإيرانية كشفت عن أمرين مهمين؛ أولهما أن طهران يمكن أن تقبل التفاوض، لكن بعد تخفيف العقوبات الاقتصادية وحدوث تحسن نسبى فى الوضع المعيشى للإيرانيين. والثانى اقتراح توقيع معاهدة عدم اعتداء مع الدول الجارة فى الخليج، بهدف إثبات حسن النوايا الإيرانية، وتكوين علاقات بناءة مع جميع دول الجوار وفقا لتعبير جواد ظريف فى بغداد. الأمران يعنيان نوعا من البحث عن مخرج لحفظ ماء الوجه، إذ فى حالة قيام الولايات بتخفيف العقوبات كخطوة تسبق مفاوضات يتفق عليها مبدئيا عبر الوسطاء أو من خلال تمرير رسائل عبر أطراف ثالثة، سيكون من اليسير إقناع الرأى العام الإيرانى بأن المفاوضات وتقديم بعض التنازلات، هى المسار الأفضل لتجنيب البلاد مصيرا مضطربا. أما فى حالة قبول الدول المجاورة مبدأ البحث فى معاهدات عدم اعتداء، فسيعنى ذلك تغييرا فى توازنات المنطقة المناهضة للسياسة الإيرانية، وتخفيفا للضغوط عليها. بيد أن العقدة الرئيسية تكمن فى فقدان الثقة فى السياسة الإيرانية بمجملها، ما يمنع أخذ اقتراح توقيع معاهدات عدم اعتداء بالجدية اللازمة التى تحوله إلى واقع لاحقا. ولذا سيظل على إيران أن تتخذ خطوات ملموسة تجسد نيات حقيقية فى عدم الإضرار مباشرة أو عبر وسطاء بأمن الدول المجاورة. وفى تصورى أن موقفا إيرانيا ضاغطا على جماعة الحوثى الإنقلابية فى اليمن لتطبيق قرارات الأممالمتحدة، وإنهاء الهجمات الصاروخية أو بالطائرات المسيرة على الأراضى السعودية، والكف عن التدخل فى شئون البحرين الداخلية، والكف عن توجيه التهديدات المباشرة أو المبطنة، وإنهاء الازدواجية فى الخطاب السياسى الإيرانى، يمكن اعتباره دليل حسن نية أولى قد يسمح لاحقا بالبحث الجدى فى أى اقتراحات لتطبيع العلاقات الإيرانية الخليجية. وإلى أن يحدث كل أو بعض هذه العناصر الرئيسية، سيظل التوتر هو السمة الغالبة فى الأفق الإستراتيجى لمنطقة الخليج.