هل فلسفة ديكارت فلسفة متشابهة تحتمل أكثر من معنى أم أنها فلسفة محكمة الدلالة؟ هل تنطوى على مواقف غير واضحة ومتميزة أم أنها تعطى نموذجا للفكر الواضح المتميز؟ هل هى فلسفة عقلانية أم لاهوتية؟ هل العقلانية أمر محسوم فيها أم أن العقلانية مجرد قناع أخفى وراءه ديكارت اتجاهاته اللاهوتية؟ هل هى فلسفة تتخذ نقطة البدء فيها من الإنسان أم من الله؟ من الفكر الخالص أم من الضمان الإلهي؟ هذه الأسئلة وغيرها يسعى د. محمد عثمان الخشت للإجابة عنها فى كتابه الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، بعنوان “أقنعة ديكارت العقلانية تتساقط” فتلك الفلسفة تشتمل على نصوص متشابهة، كما أن نسقه الفلسفى فى علاقته بالدين محل اشتباه فى تفسيره، ذلك أن ديكارت يعد من بين الفلاسفة الذين أثاروا نوعا من الجدل فى تاريخ الفلسفة، على الرغم من المقولة الشائعة عنه من كونه فيلسوف الوضوح والتميز والعقلانية الخالصة. يوضح المؤلف أنه لو كانت هذه المقولة صادقة لما كان ديكارت مثيرا للجدل حول طبيعة موقفه الفلسفى فى علاقته بالدين، فتعدد التفسيرات وتباينها لأكبر دليل على أن النسق الديكارتى غير واضح، وأن منهجه يتسم بالغموض أحيانا، وعدم الصرامة المنطقية فى أحيان أخرى، بل إن ثمة ثنائية فى فلسفة ديكارت تكشف عن تناقضات فى مواقفه، ولعل هذه السمة هى التى أدت إلى أن يكون منبعا لمدرستين متباينتين فى الفلسفة الحديثة. يقول برتراند راسل:”إن فى ديكارت ثنائية لا تحل، بين ما تعلمه من العلم المعاصر له، وبين النزعة المدرسية التى درست له وقد أدى به هذا إلى تناقضات ذاتية، لكنها جعلته أكثر غنى بالأفكار المثمرة من أى فيلسوف منطقي، كان يمكن أن يكون، فالاتساق كان يمكن فقط أن يجعل منه مؤسس مدرسة جديدة، بينما التناقض جعله منبع مدرستين فى الفلسفة مهمتين، غير أنهما متباعدتان”. وإذا كان أغلب المؤرخين يعتبرون ديكارت طيلة الأربعة قرون الماضية أبا للفلسفة الحديثة، فقد آن الأوان كما يقول المؤلف لتمحيص هذا الادعاء ووضعه على ميزان البحث، فما العقلانية الديكارتية بأمر تدل عليه نصوص ديكارت دلالة قطعية الدلالة، إذا نظرنا إلى فلسفة ديكارت ككل، وليس إلى بعضها فقط، حيث توجد نصوص تدل على اتجاه عقلاني، كما توجد نصوص تدل على وجود اتجاه لاهوتى فى تفكيره، وتشير بعض الحلول التى قدمها لبعض الإشكاليات الفلسفية إلى اختيارات لاهوتية بحتة، ما يستدعى إعادة النظر فى فلسفته عامة وفكره الدينى خاصة، انطلاقا من مفهوم الاشتباه، كما يستدعى التساؤل: هل العقلانية مجرد مظهر أخفى ديكارت وراءه اتجاهاته اللاهوتية التى لا تخرج عن كونها عقائد المسيحية وقد ارتدت لباس الفكر الخالص ورفضت لواء العقلانية الحديثة؟ هذا كتاب ضد العقل المغلق المتخفى فى عقل مفتوح، ويختلف عن كل شروح فلسفة ديكارت السابقة، لأنه لا يقدم قراءة لفلسفة ديكارت فى علاقتها بالدين، كما قرأها هو ذاته، وكما عرف هو خصائصها وأركانها، بل يقدم قراءة من سياق مختلف، ومن منظور ينشد الوصول إلى ساعة العقل الأخيرة، التى تجعل الأيديولوجية اللاهوتية تواجه نفسها أخيرا، وهى عارية من كل أساليبها المراوغة. إن مؤلف هذا الكتاب د. محمد عثمان الخشت يسعى للصعود من الشرح النصى إلى التأويل الفلسفي، عبر قراءة المذهب فى بنائه الداخلي، والوقوف على لحظات المنهج لتفحص مدى عقلانيته ولا عقلانيته، وتحليل الفضاء الموجود بين تلك اللحظات أو وراءها، للوصول إلى المعنى الباطن للمذهب والذى يتخفى وراء اللفظ الظاهري، إن منهجية المؤلف ليست قانعة بما هو منطوق وحده، بل متطلعة إلى استنباط ما هو مسكوت عنه أو ما يعجز عنه نطاق القول بسبب من المراوغة الأيديولوجية، التى تريد التخفى تحت ثوب العقلانية الحديثة.