بعد أسابيع قليلة من انتخاب الرئيس محمد مرسى فى مصر، شرعت وزارة الخارجية الأمريكية فى الإعداد للقاءات أو موائد مستديرة مع نشطاء المجتمع القبطى فى الولاياتالمتحدة بغية التعرف على مخاوفهم بعد وصول رئيس بخلفية إسلامية إلى قصر الحكم، وقد سبقت تلك الترتيبات زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون إلى مصر، وطلبها الاجتماع بعدد من رموز ونشطاء الأقباط فى الداخل، وهو ما قوبل بالرفض من جانب عدد من قيادات الأقباط بسبب عدم رغبتهم فى إضفاء طابع طائفى على مثل تلك اللقاءات التى جاءت فى توقيت حساس. ورغم اجتماع الوزيرة الأمريكية بعدد من الأقباط، فإن المسئولين الأمريكيين رجعوا إلى واشنطن غير سعداء بموقف أقباط الداخل من السيدة كلينتون، وجددت وزارة الخارجية الأمريكية محاولات التواصل مع الشخصيات المعروفة فى الجالية القبطية فى الداخل الأمريكى. ووفقا لمعلومات حصلت عليها “الأهرام العربى" تضمنت قائمة المدعوين للموائد المستديرة أكثر من 15 شخصية من جميع الولايات الخمسين, من بينها أسماء معروفة وبعضها يظهر للمرة الأولى فى حوارات مع مسئولين أمريكيين. وقالت مصادر أمريكية، إن الهدف من اللقاءات هو شرح سياسات الإدارة الأمريكية تجاه مصر، بعد موجة الرفض الواسع لدعم تيار الإسلام السياسى فى مصر، فى وقت مازالت قضايا الحريات الدينية وحق ممارسة الشعائر الدينية وحقوق المرأة والأقباط لم تحسم بعد. ثم قال نشطاء أقباط إن “المائدة المستديرة" التى كانت ستجمعهم بالمسئولين الأمريكيين قد ألغيت! وقد تحفظ عدد من قيادات الأقباط فى الولاياتالمتحدة بوضوح على نهج إدارة أوباما فى لقاءات منفردة مع مسئولين أمريكيين. وتشير تقديرات وزارة الخارجية الأمريكية إلى وجود 300 ألف مسيحى مصرى فى الولاياتالمتحدة يتركز معظمهم فى لوس أنجلوس وولايات الشمال الشرقى. ولم تكن القائمة التى أعدتها الخارجية الأمريكية تضم شخصيات مثل موريس صادق أو جوزيف نصر الله أو القمص زكريا بطرس، وهى الشخصيات التى ترددت أسماؤها فى عناوين الأخبار فى الأيام الأخيرة على خلفية الفيلم المسىء للنبى محمد، وهو العمل الفنى الهابط الدى أشعل بركانا من الغضب فى عواصم عديدة من العالم العربى وهدد البعثات الدبلوماسية الأمريكية فى مصر وليبيا واليمن وتونس، وراح ضحيته السفير الأمريكى فى طرابلس. براءة المسلمين فى التوقيت نفسه، كان موريس صادق يعد لقنبلة 11 سبتمبر جديدة بالتعاون مع شخصيات من اليمين المتطرف بالترويج لفيلم يحمل عنوان “براءة المسلمين" لم يظهر منه سوى 13 دقيقة على موقع “يوتيوب" فى يونيو الماضى دون أن يلتفت رواد الموقع إلى مضمون الفيلم ردئ المستوى- تم تصويره العام الماضى- من ناحية المضمون والمستوى الفني. وفى زيارة لكنيسة سان مارك فى منطقة “فير فاكس" بولاية فيرجينيا وهى التى يتردد عليها موريس صادق وعائلته وتعد واحدة من أكبر كنائس المهجر، أكد أقباط الكنيسة أن علاقة موريس صادق بالكنيسة “شبه مقطوعة" من فترة ليست بالقصيرة نتيجة صدامه مع الكثيرين لآرائه المتطرفة ومحاولته الترويج للعداء ضد المسلمين فى مصر بطريقة تثير نفور شعب الكنيسة منه. وعلى خلاف كثير مما ينشر يبدى غالبية من أقباط المهجر تحفظهم على التقارب مع اليمين الأمريكى ويرون أن الدولة فى مصر مقصرة فى الحوار معهم، لكنهم أيضاً يبتعدون عن الشخصيات المثيرة للقلق، وتلك واحدة من أسباب فشل الكثير من التنظيمات والجمعيات القبطية التى لا تجد حماسة من أقباط المهجر خصوصا لو كانت تنتهج “صوتاً زاعقاً". وكان موريس صادق قد حضر إلى الولاياتالمتحدة قبل أكثر من عقدين لممارسة مهنة المحاماة التى يردد أنه يعمل بها، بينما فى حقيقة الأمر اسمه غير مسجل فى السجلات كمحام معتمد، وتكسب لفترة من الوقت من عمله محاميا لطالبى حق اللجوء أو من يريدون الهجرة إلى أمريكا بعقود عمل أو خلافه. وتشير الأوساط القبطية إلى تكسبه أموالا من ممارسة تلك الأعمال إلا أن المنحى الخطير لهجومه على الأغلبية المسلمة فى مصر ومحاولته إنشاء كيان مؤسسى بدأ فى أعقاب حرب العراق وإعلانه دولة قبطية من ثلاثة أفراد تقريبا مع ناشط آخر يدعى رمزى زقلمة، وهى دولة مزعومة لا توجد سوى فى عناوين الأخبار والمواقع والصحف التى تبحث عن الأخبار الحريفة عن أقباط المهجر من أجل لفت الأنظار وزيادة المبيعات. وقد كانت لكاتب السطور تجربة شخصية فى مجلس النواب الأمريكى أثناء التحاقه بمنحة دراسية للزمالة فى “الكونجرس" حيث قام موريس صادق بإرسال مجلة كان يقوم بإصدارها إلى مكاتب النواب، وحملت الصفحة الأولى مقالا ساخنا يدعو فيه حلف شمال الأطلنطى “الناتو" إلى التدخل لاحتلال مصر وفرض “الدولة القبطية" تحت قيادة الولاياتالمتحدة! وقد أبدى نواب أمريكيون وردت المجلة إلى مكاتبهم استغرابهم من المبالغة الشديدة والمهنية المفقودة التى كتب بها “صادق" المناشدة أو التقرير، وبالرداءة نفسها قدم موريس أو بعض من أتباعه فيلما مسيئا للنبى محمد دون أن يتدبر عواقب فعلته المشينة. جراوند زيرو والمعروف أن الفترة التى شهدت تحرك موريس صادق على تلك المستويات هى الفترة التى شهدت صعود تيار المحافظين الجدد فى الولاياتالمتحدة وتواصل التيار مع أقليات دينية من منطقة الشرق الأوسط، إلا أن عددا قليلا من الأقباط قد تفاعل معهم ثم استمر الرجل فى شطحاته الكثيرة ومحاولة تأليب الداخل فى مصر عبر تحالفات مع التيار المتنامى المعادى للإسلام، وهو تيار ظهر بعد هجمات 11 سبتمبر واكتسب زخما قويا بوجود دعم مادى قوى من اليمين الأمريكى واللوبى الموالى لإسرائيل، وتجلت قوة التحالف يوم 11 سبتمبر 2010، عندما عقدوا مؤتمرا ضخما قرب موقع سقوط برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك ضد بناء مسجد ومركز ثقافى يعرف باسم “جراوند زيرو" فى ذلك اليوم ظهر على المسرح جوزيف نصر الله مؤسس قناة الطريق الدينية والواعظ البروتستانتى إلى جوار باميلا جيللر مؤسسة “تحالف ضد أسلمة أمريكا" والنائب الهولندى المعروف جيرت فيلدرز، صاحب فيلم “فتنة المثير للجدل عام 2008، وآخرون من بينهم أحد ممولى الفيلم المسىء. وورد اسم جوزيف نصر الله فى ضجة الفيلم المسىء باعتباره من قام بالإشراف على إنتاج العمل عبر جمعيته “ميديا من أجل المسيح" الواقع مقرها فى منطقة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا. وتعود قصة المنظمات القبطية فى الولاياتالمتحدة إلى عام 1972، عندما قام الدكتور شوقى كراس، رائد النشاط القبطى فى المهجر، بتأسيس الجمعية الأمريكية القبطية من حسابه الخاص. وكان كراس قد شهد الصراع الطائفى الذى اندلع فى قرية الخانكة بالقليوبية فى نوفمبر من ذلك العام، عندما تم إنشاء كنيسة غير مرخص بها من الدولة. إقامة جبرية للبابا ويقول الباحث بول سيدرا إن عمل جمعية كراس قد شهد طفرة بوضع البابا شنودة الثالث تحت الإقامة الجبرية من قبل السادات فى عام 1981، حيث سعى إلى توحيد الجهود للضغط على المشرعين الأمريكيين لممارسة ضغوط على مصر لضمان الإفراج عن البطريرك عبر اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان فى الكونجرس والمنظمات الدولية ومخاطبة الرئيس السابق حسنى مبارك مباشرة، ونظم كراس ونشطاء آخرون مظاهرة بشكل روتينى فى كل زيارة قام بها مبارك إلى واشنطن، وهى المظاهرات التى اشترت لها الجمعية مساحات إعلانات كبيرة فى الصحف الكبرى. وقد كانت أنشطة جمعية كراس مثار جدل فى وسائل الإعلام المصرية أثناء زيارات مبارك وحتى عودة البابا إلى كرسيه فى عام 1985. ومن الجمعيات البارزة فى العمل الخدمى القبطى “جمعية الأيتام القبطية" التى تأسست فى عام 1988، وتشارك فى أنشطة الإغاثة والتنمية فى جميع أنحاء مصر، والتى يقودها المجلس مع أعضاء من الولاياتالمتحدة، والمملكة المتحدة، وكندا، وأستراليا. ومع اتساع أنشطة جمعيات المهجر- يقول سيدرا- سمح الفضاء الإلكترونى لشخصيات متطرفة فكريا مثل موريس صادق بمخاطبة دائرة من مؤيديه دون أن تكون له قدرة على الحشد لتنظيم مظاهرات كبيرة مثلما فعل “شوقى كراس" فى الثمانينيات. وكانت الجمعيات القبطية على مختلف توجهاتها قد شاركت فى مظاهرة كبرى بعد حادثة ماسبيرو أمام البيت الأبيض فى أواخر العام الماضى وحاول موريس صادق أن يشعل حماسة الأقباط بترديد هتافات ضد المسلمين والدين الإسلامى إلا أن عددا من قيادات المسيرة طالبوه بالسكوت وعدم التجريح فى الدين الإسلامي، فتوارى للخلف.. ولم تتمكن “الجمعية الوطنية القبطية الأمريكية" التى يترأسها موريس صادق من أن تفرض وجودها على المسيرة ويقول أقباط “سان مارك" إنهم يجهلون هوية وعدد أعضاء منظمته! وأبرز من شاركوا فى تنظيم تلك المسيرة هى “منظمة التضامن القبطى" التى يقول مؤسسها مجدى خليل إنها مسجلة فى واشنطن وتكساس ونيويورك وفرنسا وكندا. وسبق للمنظمة، الحديثة العهد والتى تعتبر مظلة لعدد من الكيانات التى توحدت تحت راية واحدة، أن قامت بتنظيم مؤتمر كبير فى الكونجرس قبل شهور قليلة حول حقوق الأقباط، تحدث أمامه عدد من نواب الكونجرس من المهتمين بحقوق الأقليات وعضو من مجلس العموم البريطانى وآخر من البرلمان الكندى. نعود إلى قصة الفيلم المسىء، فيرجح أقباط كنيسة “سان مارك" فى فيرجينيا أن يكون موريس صادق قد قرر تصعيد مواقفه والتحالف مع آخرين من خارج المجتمع القبطى فى فيرجينيا نتيجة فشله فى حشد أنصار فى أوساطهم، ويقول أيمن سمير إن صادق “مولع بالشهرة وحب الظهور ولا يوجد سقف لرغبته فى تحقيق أهدافه". وقد قال صادق إنه يقوم بالترويج للفيلم ولكن تظهر شخصية نيقولا باسيلى نقولا، وهو شخص متهم بالنصب والاحتيال فى ولاية كاليفورنيا باعتباره المنتج للعمل أو بالأحرى هو الواجهة التى أطل من ورائها آخرون من المتطرفين لإثارة فتنة عارمة يوم 11 سبتمبر. قضايا نصب وتبرز علامات استفهام كثيرة حول قدرة باسيلى على تمويل العمل أو الوقوف وراء عمل يهدف إلى تشويه الإسلام فيما هو متورط فى قضايا نصب وتحت المراقبة، ولا يعقل أن يتفرغ الرجل لحملة ضد الإسلام دون أن يكون هناك من يحركه أو يكون هناك ضالعون آخرون فى مؤامرة الفيلم المسئ بينما يقف القمص زكريا بطرس حنين (77 عاما) بمثابة الأب الروحى للثلاثى القبطى المشارك فى الفيلم -صادق ونصر الله وباسيلي- من مقر إقامته السرى فى منطقة “هانتنجتون بيتش" بمقاطعة أورانج كاوينتى بولاية كاليفورنيا مسرح القصة كاملة. كان القمص بطرس المشهور ببرامجه التليفزيونية المثيرة للجدل قد انتقل إلى كاليفورنيا فى مطلع العقد الماضى، وأسس أخيرا قناته “الفادي" بعد أن أوقفت قناة “الحياة" المسيحية برنامجه فى عام 2010، لتعديه على تعاليم الدين الإسلامى وإثارته للفتنة فى مصر والعالم العربى، ويقال إن تنظيم القاعدة قد رصد 60 مليون دولار لمن يقتله. فى المقابل، يقول ستيف كلاين، مستشار الفيلم حسب تعريفه، إن معظم من شاركوا فى العمل من المسيحيين البروتستانت وبعضهم من المصريين الأقباط، وهو ما يرجح وجود تمويل من جماعات معادية للإسلام، خصوصا أن كلاين يرتبط بعلاقة قوية بمنظمى الحملة ضد مسجد نيويورك قبل عامين وشارك فى المظاهرات فى عام 2010. فى الصورة الأكبر يبدو أن “أفرادا" من أقباط المهجر قد شاركوا فى لعبة خطرة لإثارة الفتنة فى إطار شبكة من مصالح مادية ودعائية وسياسية يقودها تيار من اليمين الأمريكى قوامه من المعادين للإسلام، وهى جماعات تتكسب مئات الآلاف والملايين سنويا من نشر الكراهية والتعصب الطائفى فى الولاياتالمتحدة وخارجها، ويجمع أقباط الولاياتالمتحدة إلى حاجتهم لكيان معتدل واحد يتحدث باسمهم ويعكس قضايا الأقباط عبر الحوار ومد الجسور مع الوطن الأم.