ينتمى الشاعر الإسبانى فدريكو غارثيا لوركا إلى جيل 27 الأدبى الشهير، وقد ولد عام 1889 ومات برصاص ميلشيا الفالانخا التابعة لقوات فرانكو العسكرية فى مكان مجهول عام 1936. والأقوال عن سبب مقتل لوركا كثيرة – كما يقول عبد الهادى السعدون - فى ترجمته لديوان لوركا “الأغانى الغجرية” الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وأغلبها لا يخرج عن التكهنات والتوقعات الممكنة، فلوركا لم ينتم طوال حياته لأى حزب سياسي، كما كان بعيدًا عن هذه الأجواء المشحونة بالدم والكراهية، إبان نزاع الإخوة فى إسبانيا الثلاثينيات من القرن العشرين، وإن كان صديقًا حميمًا لأغلب الأصوات المعارضة للديكتاتورية الفرانكوية. يقول السعدون: من المؤكد اليوم، وبعد ظهور دراسات جديدة، أن مقتل لوركا لم يكن متعمدًا، بل ربما جاء عشوائيًا فى ظل حرب أهلية شرسة، كما أن أبحاثًا أخرى تحيل قتله إلى كره وضغينة من بعض أقاربه، ويشك – حسب أقوال المؤرخ الأيرلندى المعروف إيان جبسوته – بابن عمه الذى كان كارها له، وعلى عداء سافر مع عائلته، أما التكهنات الأخرى المتعلقة بكونه معارضا ويساريا، فتعد اليوم غير مقنعة – كما يشير السعدون – ولا تستند إلى دليل واحد، هذا دون أن ننسى أن صوتا شعريا فى مكانة لوركا لا بد أنه أثار الكره والضغينة فى نفوس ميليشيات الفالانخا اليمينية، وكان سيسبب لهم الكثير من المتاعب الفكرية فيما لو تركوه حيا. يرى السعدون أن مقتل لوركا قد زاده شهرة على شهرته السابقة، وفتح العيون على أدبه إلى درجة أن يصبح فيها رمزا للمأساة الإسبانية فى ظل الديكتاتورية العسكرية، بل لتتعدى ذلك إلى أن يصبح لوركا ومقتله رمزا عالميا للدفاع عن الشعر والجمال إزاء الطغيان وبشاعة الحروب.
يوضح أن لوركا كتب فى كل الأنواع الأدبية الفنية لكن الأهم فى مسيرته الأدبية ما كتبه فى المسرح، فى أعمال متميزة منها “عرس الدم” سنة 1933 “يرما” 1934 “بيت برناردا ألبا” 1936 وغيرها، وكذلك فى إصداراته الشعرية، مثل “كتاب القصائد” 1921 “قصيدة الغناء العميق” 1921 “نشيد إلى سلفادور دالي” 1926 “الأغانى الغجرية” 1928 “شاعر فى نيويورك” 1930 وغير ذلك من دواوين منها “بكائية من أجل إغناثيو سانشيث مخياس” 1935 و”ديوان التماريت” 1936. نشر لوركا ديوانه “الأغانى الغجرية” عام 1928 إلا أن مسودة قصائده تعود إلى فترات سابقة، وقد نشر بعضها فى مجالات عديدة، وغير فيها الكثير قبل أن تأخذ شكلها النهائي، لينشره فى طبعة أولى ضمن منشورات مجلة “الغرب” المعروفة، وزين غلافها واحد من تخطيطاته المدهشة.
عبر قصائد الديوان حاول لوركا محاكاة النمط الشعرى الخاص المعروف منذ العصور الوسطى باسم “الرومانث” وهو نوع من القصائد ذات الطابع التقليدى الشعبى الخاص بإسبانيا وشبه الجزيرة الأيبيرية وبلدان أمريكا اللاتينية الناطقة بالإسبانية، وقد شاع هذا النوع من الشعر فى القرن الخامس عشر.
تنبع ميزة قصائد “الرومانث” من تبنى لوركا حيزا مكانيا خالصا، وهنا هو “الأندلس” موطن أهله وعائلته، بكل ما تزخر به من رموز شعبية ودينية ومحلية خاصة، وحاول المزج ما بين الطابع الحكائى والشعرية الطاغية، وفى الديوان نجد العديد من الشخصيات الواقعية، إضافة إلى الشخصيات التاريخية والدينية، وهو يتلاعب مازحا فيما بينها وكأنها تنتمى إلى الحيز نفسه، ولا تكاد تخلو قصائد الديوان الغجرى من مفردات مثل القمر واللون الأخضر والمياه والمرايا والجياد والقديسين وغيرها الكثير، بوصفها الشبكة الجامعة للعوالم الخفية الناطقة فى أبيات لوركا الشعرية.
يرى سعدون أن استخدامها لم يأت اعتباطيا أو زينة لفظية، بل تتعداه لتشكل صلب المناخ الشعرى للديوان بأكمله، ويجيء عشق لوركا ودفاعه عن عوالم الغجر متزامنا مع ذوقه الفنى المتميز، وانحيازه التام لعوالم المهمشين فى بلاده أو فى بلدان العالم قاطبة، وبنظرة سريعة إلى أعماله المسرحية والشعرية سنراه مدافعا عن السود والنساء والغجر والضحايا بصورة عامة.