«القادسية» أول أفلامه.. من إنتاج عراقى وإخراج صلاح أبو سيف السادات اعتبر «ليلة سقوط غرناطة» «تلسينا» عليه بعد زيارته للقدس
أمام كلية الآداب تنازعته الرغبة بين اللغة العربية والتاريخ والفلسفة
مسرحية “حفلة على الخازوق” رفضتها الرقابة فى مصر وعرضتها الكويت
بعد صراع مع المرض يرحل محفوظ عبد الرحمن، الكاتب الصحفى والسيناريست والمسرحى الكبير، مصابا بجلطة دماغية، لتنتهى حياة امتدت على مدى 76 عاما، تاركة لنا تراثا كبيرا من الكتابة الجادة والقيم الثقافية الرفيعة، التى حاول الكاتب الكبير تكريسها، طوال هذه السنوات، منذ ميلاده فى 11 يونيو 1941 هذا المنجز الذى تركه لنا عبد الرحمن تابعته بجدية أكبر د. سميرة أبو طالب، تلميذته النجيبة، عبر أكثر من كتاب.
عاش الكاتب المسرحى محفوظ عبد الرحمن بين ثورتين (يوليو 1952 ويناير 2011) وكتب عن ثورتين (ثورة عرابى وثورة 1919) وأنجز إبداعه فى مجالات الدراما التليفزيونية والعمل السينمائى والمسرح وكتابة القصة والمقال، وعندما بدأ كتابة الدراما كتب سهرتين مأخوذتين عن عملين لإحسان عبد القدوس ومسلسل تليفزيونى عن عبد الله النديم مأخوذ عن رواية أبو المعاطى أبو النجا “العودة إلى المنفي”، واختار وقتها ألا يكتب إلا ما هو مقتنع به، فذهب إلى الفترات التاريخية المختلفة والتراث العربي، فكان أول عمل تليفزيونى له فى هذا الاتجاه هو “سليمان الحلبي”.
فى بداية السبعينيات ارتحل محفوظ عبد الرحمن عن مصر، حيث استقر به المقام فى أكثر من بلد عربي، وكتب أول أفلامه من إنتاج عراقى وهو فيلم “القادسية” من إخراج صلاح أبو سيف، وعانى كثيرا مع الرقابة، فحين كتب “ليلة سقوط غرناطة”، وتناول من خلاله تسليم غرناطة للملك، الإسبان، بموجب الاتفاقية الموقعة مع عبد الله الصغير حاكم غرناطة، اعتبره الرئيس السادات «تلسينا» عليه، بعد زيارته للقدس، فقامت الرقابة بمنعه من العرض فى مصر، فى الوقت الذى عرضته الكثير من القنوات التليفزيونية العربية.
نذهب مع محفوظ عبد الرحمن إلى إحدى قرى محافظة البحيرة، حيث ولد الكاتب الكبير فى مكان، تلفه الوحدة وسط سكون الريف، فلا يجد الصغير ملاذا سوى الكتاب، ويجعل من خياله مسرحا لقراءاته، عيناه الصغيرتان تبحثان دائما عن الجديد، وروح المغامرة تأخذه إلى كل مكان، ليضيف إلى إحساس الوحدة لديه، إحساس الغربة.
وفى عام 1955 يذهب إلى القاهرة، وهو يحمل تصورات القراءة الأولى عن تلك المدينة التى شغفته حبا، وسرعان ما اكتشف أنه ينتمى إلى مقاهيها: “ريش، استرا، إيزافيتش” وتلك الأجواء التى تجمع بين نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهما، كان شديد اللهفة لأن يسير بخياله مع سور الأزبكية، وأن يقرأ كلاسيكيات الأدب، وأن يذهب يوما إلى الأوبرا.
وقف أمام كلية الآداب، تتنازعه الرغبة فى الاختيار بين ثلاثة مجالات: اللغة العربية، التاريخ، الفلسفة، وكان التاريخ أول اختياراته فهو وحده كما يقول: “القادر على أن يبعث برسائله إلى الحاضر المثقل بقضايا الإنسان المعاصر” وكانت فترة الجامعة ما قبل الستينيات تموج بالعديد من الأخطار والآراء والرؤى السياسية، من هنا عرف الطريق إلى الصحافة، فكتب المقالات فى مجلة “الهدف” التى كان يترأس تحريرها أحمد حمروش، وفى جريدة “المساء” برئاسة خالد محيى الدين.
عرف محفوظ عبد الرحمن الكثيرين من أبناء جيله، إلا أنه اتخذ موقفا خاصا، ورؤية يرسم من خلالها شخصياته، وينحت ملامحها، ويبثها مشاعر تمتلئ بالطاقة الإبداعية الهائلة، وكان لقاؤه عام 1958 بسعد الدين وهبة من أهم المحطات فى حياته، فقد عمل معه فى مجلة “البوليس” أثناء سنوات دراسته الجامعية الأولى، يقول محفوظ عبد الرحمن فى المذكرات التى أملاها على سميرة أبو طالب: “قابلت سعد الدين وهبة عام 1958 لأول مرة عن طريق زميلى بكلية الآداب عبد المنعم صبحي، الذى كان يعمل معه، وكان قد حدثه عني، وقدم له بعض النماذج من قصصى ومقالاتي، فطلب منه سعد الدين وهبة أن أذهب لمقابلته وحينما ذهبت رأيت شابا قويا طويل القامة، ضغط بقوة على يدى وهو يصافحني، وطلب منى أن أعمل معهم فى مجلة “البوليس” والتى كانت وقتئذ من أغرب الظواهر الصحفية”. لم يكن من السهل على من يعملون بمجلة “البوليس” أن يتقبلوا محفوظ عبد الرحمن بينهم، كان العداء واضحا منذ اللحظة الأولى، لكن سليمان فياض بدأ فى إزالة هذه الجفوة، وكان أسرعهم مودة إليه، اقتسم معه كل شيء: ساعات العمل وكوب الشاي، وفتح كل منهما نافذة للآخر كى يطل منها على عالم لم يألفه من قبل.
يقول عبد الرحمن: “أذكر أول قصة كتبتها، وربما كان كل ما أذكره منها هو عنوانها “بلا حدود” لكننى كنت فعلا أسير الحدود، حين قابلت سليمان فياض، بعد عشر سنوات من كتابة هذه القصة، قال لى فى سخط: “أنت لست جريئا بشكل كافٍ، اخرج من الحدود” وتغيرت تماما بعد لقائى سليمان فياض”.
لم يكد ينهى محفوظ عبد الرحمن دراسته بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1960 حتى التحق بدار الهلال فى العالم التالي، وبعد ثلاث سنوات قضاها فى العمل الصحافي، تعذر حصوله على عضوية نقابة الصحفيين، فترك دار الهلال ليعمل بدار الكتب الوثائق القومية عام 1963 وخلال تلك الفترة كتب العديد من القصص القصيرة، وتفرغ لقراءة الآداب القديمة، ثم كان أن كتب أول مسرحية له تحت عنوان “اللبلاب” عرفت طريقها إلى خشبة المسرح القومي، لكن قرب افتتاح العرض المسرحى لنصه، كانت الرقابة تجهز على هذا الحلم، فتوقف عن الكتابة المسرحية، وعاد إلى دار الكتب والوثائق القومية.
يقول عبد الرحمن: “كانت المشكلة التى واجهتها من البداية هى مشكلة الرقابة، وكنت قد تعرضت لمحنة قاسية مع أولى كتاباتى للمسرح، إذ منعت الرقابة هذا الحلم، قبل رفع الستار بأيام قليلة، وقد حاولت أن أسأل عن أسباب المنع، فلما فشلت حاولت أن أستنتج، ولا تزال المحاولة فاشلة، ولكم أن تتخيلوا شابا فى مقتبل العمر، يستطيع أن ينفذ إلى مسرح الدولة، فى وقت يزدحم بكبار الكتاب، ويتوهم أنه قد لحق بآخر الصف، فإذا بقوة غير مرئية ولا واضحة، تلقى به بعيدا، وأكلت الصدمة من عمرى أحد عشر عاما، لم أجرؤ خلالها على الكتابة للمسرح، الذى كنت أراه، وما زلت، أحب الأشكال إلى قلبي”. عمل محفوظ عبد الرحمن فى تلك الفترة فى أكثر من مجلة أدبية وسينمائية، ودخل ميدان الصحافة من باب الأدب، ولأن الشكل الفنى الذى بدأ يفرض وجوده على الساحة كان الدراما التليفزيونية، كتب أول سهرة بعنوان “ليس غدا” أذيعت عام 1965 واكتشف أن بإمكانه أن يحول المتلقي، الذى كان معدودا على الأصابع إلى المئات من المشاهدين الملتفين حول الشاشة الصغيرة. يقول عبد الرحمن: “منذ ما يزيد على الثلاثين عاما أمسكت بالقلم فى جرأة، أحسد عليها نفسى الآن، لأكتب تمثيلية للتليفزيون، ولو أننى كنت أدرك هول ما أفعل، ربما لم أكن أفعله كان الأمر كله انسياقا مع تيار عام، تساءلت مع كثيرين: هذه الدراما التليفزيونية التى تأتينا إلى حيث نحن، هل تستحق أن نهتم بها كتابا حتى وإن كنا ناشئين، وكان معظم من ناقشت معهم هذه القضية يرون فى الدراما التليفزيونية نوعا جديدا من الأدب، ومن المدهش أن بعض الذين تحمسوا لأدب التليفزيون تراجعوا عن حماسهم ورأوا فى التليفزيون عملاقا بلا رأس، يدرس العقل والوجدان، ومن المدهش أيضا أن بعض الذين رفضوا أن يعترفوا بالتمثيلية أدبا، عادوا وقد أدركوا خطورة هذا الوافد الجديد”. مع بداية عام 1974 استقر محفوظ عبد الرحمن فى الكويت، وبدأت مرحلة فاصلة فى تاريخه، إذ تعاون مع المخرج الكويتى الراحل صقر الرشود فى أول نص مسرحى عرض له على مسرح الخليج العربي، وهو “حفلة على الخازوق” بعد أن رفضتها الرقابة فى مصر، وهو هنا يقول: “طلب منى السفر إلى الكويت الأستاذ محمد ناصر السنوسى وجاء سليمان الفهد، وكان رئيسا للشئون الفنية آنذاك فى التليفزيون، واتصل بى وهو فى القاهرة وقال لى أنت مطلوب للعمل بتليفزيون الكويت، ووافقت، واستمر عملى فى الكويت لمدة ثلاث سنوات”. قدم محفوظ عبد الرحمن شكلا جديدا للدراما التاريخية، يبتعد عن الشكل التقليدى الخطابى والشخصيات النمطية، قدم التاريخ لحما ودما، أبطاله يعيشون كما الشخصيات العادية، وعن طريقته فى تقديم التاريخ العربى يقول: “التاريخ العربى تجربة متجددة ومتكررة، وغالبا ما تكون زيارتنا لمنطقة معينة من هذا التاريخ رسالة إلى الحاضر، خصوصاً حينما يقدم ما بداخلى بالاختيار، وكثيرا ما أجد عينى تقع على أشياء دون أخرى، رغم اهتمامى بكل التاريخ، وهنا حساسية لدى الكاتب فى اقتناص مناطق دون أخرى، وما لم أر الشخصيات تتحرك أمامي، وبعض الأتربة عالقة بأحد المقاعد، وهذه الملامح الحياتية بتفاصيلها الصغيرة التى تكفل حياة درامية موازية، لن أكتب”. كان خيرى شلبى قد كتب فى مجلة “الإذاعة والتليفزيون” عن محفوظ عبد الرحمن تحت عنوان “الدراما تورج” قائلا: “إن أوضح نقش فى وجه محفوظ عبد الرحمن هو معنى الصلابة والعزم والتصميم والصبر الطويل، صبر فلاح مصري، ملأته الحياة حكمة وشقاء ومرارة، بقدر ما ملأته ثقة فى المستقبل”.