وجيه فاروق - القضية هنا ليست قضية السلفيين ضد الصوفية، ولا قضية المفتى د. على جمعة ضد الشيخ أبوإسحاق الحوينى، ولا هى قضية قناة الحكمة ضد شيخ الأزهر، بل هى قضية وطن يعاد بناؤه من جديد، قضية شعب يعاد تأهيله، قضية خراب طالنا لأكثر من ثلاثين عاما، قضية مطلق يريد أن يخضع البشر للنسبى، فالمطلق هو الإسلام وقرآنه، والنسبى هو آراء البشر فيه، ولا ندرى كم سيستغرق من الوقت لإصلاح الوطن، فقد كنا نريد من هذا الحشد الغفير الذى رأيناه جميعا ونقلته فضائيات عديدة أمام محكمة جنح كفر الشيخ، أن يحتشد من أجل بناء الوطن لا أن يحتشد من أجل أن يعمق الخلافات بين الشيخين د. على جمعة و الشيخ الحوينى، فهل نحن نتكلم عن عقيدتين أم عن خلاف فى عقيدة واحدة، حيث يمثل المفتى د. على جمعة، الإسلام الرسمى المعتدل للدولة المصرية، ويمثل الشيخ أبو إسحاق الحوينى التيار السلفى المتغلغل فى ربوع مصر، وما حدث أخيرا بينهما يدعو للتساؤل والعجب. بداية الخلاف وما حدث أخيرا من قيام د. على جمعة برفع قضية سب وقذف ضد حجازى محمد يوسف، الشهير بأبى إسحاق الحوينى، متهما إياه بنقل أخبار كاذبة وألفاظ تخدش الحياء والسمعة، وتهدف إلى التشهير به، أى د. جمعة، مطالبا بتعويض قدره عشرة آلاف جنيه وواحد جنيه، جراء ما أصابه معنويا وأدبيا ونفسيا، على الرغم من تمتع الحوينى بقدر كبير من العلم بأن هذه الألفاظ خادشة لسمعة د. على جمعة، وقد حددت محكمة جنح كفر الشيخ جلسة 22 أكتوبر للحكم فيها، وقد تم تأجيلها، فبداية لم تكن العلاقة بين د. على جمعة والشيخ الحوينى طيبة طوال الوقت قبل المشكلة الأخيرة، فمنذ خمس سنوات بدأت العلاقة بالتوتر، حيث بدأها الحوينى بالهجوم على د. جمعة فى قضيتين هما مناظرة الشيخ الألبانى، والصلاة فى المساجد التى بها قبور، وصعد الخلاف بينهما فى الفترة حينما ادعت بعض الصحف الغربية أن المفتى د. على جمعة كتب مقالا فى صحيفة «الواشنطن بوست» يحرض فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية ضد السلفيين فى مصر، وهذا المقال لم نعثر عليه، ولم يقم عليه دليل حيث اتهم الحوينى د. على جمعة بأنه دشن موقعا على الإنترنت سماه «الإمام العلامة» وطالب الحوينى بسؤال زملاء د. جمعة فى الجامعة عن علمه وأخلاقه ودينه، وأن يسألوا «البتاع ده» يقصد د. على جمعة، كما ورد فى برنامج «حرس الحدود» على قناة المحور، كما اتهمه بموالاة السلطان، لاسيما فى فتاواه الخاصة بقضايا الختان والنقاب وكيفية التعامل مع المرتد، حيث اختلف رأيه فيها قبل تولى منصب المفتى عن رأيه بعد توليه المنصب، وقال عنه إنه «ولد ميتاً وجاهلا»، وهذه الاتهامات والتجاوزات لم يرد عليها د. على جمعة ولم يعلق عليها، حيث تكفل تلامذته ومحبوه بالرد على الحوينى وأتباعه، وقامت قناة الحكمة بالوقوف مع الشيخ أبوإسحاق الحوينى ضد د. على جمعة، وجعل شيوخها منبرا للدعوة للوقوف ومساندة ومؤازرة الشيخ الحويني فى القضية التى رفعها المفتى ضده. جبهة الدفاع عن الشيخ الحوينى بل وصل الأمر إلى تنسيق حملة للدفاع عن الحوينى ترأسها المهندس عاطف تاج الدين، الذى جمع توقيعات من أتباع ومحبى الشيخ الحوينى للمطالبة برحيل المفتى، وتبنت قناة الحكمة فى نفس الوقت الدعوة لرحيل المفتى، وفى المساجد قام العديد من شيوخ السلفية بالدعوة إلى مناصرة الشيخ الحوينى ضد المفتى د. على جمعة، وتجمع أمام محكمة جنح كفر الشيخ ما يزيد على مائتى ألف شخص لمناصرة شيخهم، لكن هل كل هذا الصخب الذى حدث يبرر اللجوء للقضاء للفصل بين اثنين من كبار علماء الدين فى مصر والعالم الإسلامى، ولا يتدخل العقلاء لرأب الصدع بينهما؟ أجاب المهندس عاطف تاج الدين، منسق الدفاع عن الشيخ الحوينى، بأن د. على جمعة أخطأ فى التقدير عندما صعد الخلاف العلمى بينه وبين الشيخ أبوإسحاق إلى ساحة المحكمة، فالخلاف بينهما ليس مكانه ساحات المحاكم، وإنما يقتضى الحوار والمناقشة التى تقوم على الحق و البرهان، والدليل، لأن الاختلاف بين العلماء أمر وارد ومعروف منذ فجر الإسلام. لكن د. مجدى عاشور، مستشار مفتى الجمهورية، فقد أوضح قائلا: إننا كمسلمين يجب أن نتخلق بالأخلاق الحسنة ونمتثل للشرع الحنيف، وإذا كان الخلاف بين المفتى والشيخ الحوينى وصل إلى القضاء، فليس لأحد أن تكون له الكلمة، لأننا كمؤسسة إفتاء معنيون بأمور الناس ولا يوجد لدينا وقت لمثل هذه الأمور، ولم يلجأ د. على جمعة إلى القضاء إلا بعد أن ازداد تطاول الشيخ الحوينى عليه ولم يرد عليه ولو لمرة أو يعلق على إساءته، ومن ثم فإنه لم يكن هناك بُدُّ من اللجوء للقضاء، وشدد على أنهم لن يضغطوا على القضاء ، لأن القاضى لا يدفعه إلى الحكم سوى ضميره، مبينا أن صدرهم رحب ويتسع لكل الآراء، ولكل من يريد أن يتناقش، قائلا نحن ندفع الحجة بالحجة، ودار الإفتاء كهيئة علمية تفتح أبوابها لكل من يريد أن يستدل أو يتناقش بالحكمة والموعظة الحسنة، مؤكدا أن خلافاتهم يجب أن تكون أمام القضاء وليس أمام الإعلام. ناحية أخرى أوضح د. حسين القاضى، الباحث فى شئون الجماعات الإسلامية والكاتب بجريدة المصريون فى مقالة له بنفس الجريدة، أن التجمهر أمام محكة كفر الشيخ يوم 22 أكتوبر تحول إلى سباب وشتائم لا تليق بمن ارتدى ثوب السلفية، ومما يؤسف له أن هذا لم يصدر من أحداث السلفية، بل من قيادات بعضها يتصدر القيادة والعمل السياسى مثل حسام بخارى، الذى خرجت منه ألفاظ فى حق المفتى لا ترقى إلى أدب الحطيئة أو دعبل، وليس لها من ميراث النبوة نقير ولا قطمير، فافتقد المتجمهرون السيرة المحمدية فاختلط النقد بالتقويم بسفاهات الجهل وشتائم أرباب الأسواق حتى تشيَّخ الأحداث، لذا فإن وصول الأمور إلى ساحات المحاكم ليس فى صالح الشيخين بل إنه زاد الشقة بينهما، وتدخلت أطياف فيها تريد أن تزيد النار اشتعالا بينهما، والفتنة متأججة حتى يتصدع بنيان هذا المجتمع الذى لم يشهد من قبل دعوى قضائية بين علماء دين أجلاء كما يحدث الآن، وانتقد القاضى فى مقاله أيضا موقف قناة الحكمة لأنها وقفت كطرف ولم تقف على الحياد، كما تقتضى المهنية الإعلامية وقبلها الأخلاق المحمدية الوقوف على مسافة واحدة من الطرفين، ومما يحسب للمفتى د. على جمعة أنه فى حين أساء إليه الحوينى عبر وسائل الإعلام، فإنه اتبع الخيار الحضارى فى الخلاف، فلم كل هذا الغضب والصخب والدعاء على الرجل والتجمهر أمام المحكمة؟ وهنا لابد أن نسأل أنفسنا سؤالا وهو، هل سيظل منطق التجمهر والاستقواء بالتيار والأتباع مقدما على منطق الاستقواء بالقانون ومراعاة المصالح الوطنية؟ المفتى يمثل الإسلام، وكذلك الحوينى فما الرسالة التى يمكن أن تصل للعالم داخليا وخارجيا وحتى للمسلمين أنفسهم من مثل هذا الخلاف، فالمفتى لم يصعد خلافا علميا للمحكمة، وإنما صعد ما رآه سبا وقذفا وتجريحا، حيث إن هذا التطاول والسب تكرر كثيرا وعدة مرات وموثق بالصوت والصورة، فأى نقاش علمى فى القول بأن د. على جمعة ولد ميتا وجاهلا، ذلك ما يشدد عليه د. إبراهيم نجم، عضو لجنة الفتوى بالأزهر، حيث يشير إلى أن الخلاف بين الشيخين ليس مجرد خلاف فقهى كما رأى بعض السلفيين من أتباع الشيخ الحوينى، بل هو تطاول على المفتى، وأكد د. إبراهيم نجم أن د. على جمعة بعد حوارى الشخصى معه أبدى استعداده للتنازل عن القضية المرفوعة ضد الحوينى، إذا اعتذر له الأخير بطريقة مناسبة تليق بمكانة المفتى، و قد ذكرت ذلك بنفسى فى مداخلة تليفونية لبرنامج 90 دقيقة مساء الإثنين الماضى، لكن د. على جمعة اشترط أن يكون ذلك موثقا أمام لجنة مرموقة، وهذا حقه، وأضاف د. نجم أن السلفيين بتظاهرهم ضد المفتى يحاولون إرسال رسالة سيئة للعالم الخارجى عن مصر، لأنهم بتظاهرهم بهذا الشكل أمام المحكمة يمثلون إرهابا للقانون ولهيبة الدولة. ومن جهة أخرى يستنكر د. حسين القاضى موقف المتظاهرين، حيث يراهم فى موقف ملتبس غريب، متسائلا: هل يرون دعوى المفتى افتراء ضد الحوينى فيحاولون نصرته، أم يرونه صحيحا لكنه يستحق السباب والقذف، فلا حساب على شيخهم، أم يستكثرون عليه الوقوف متهما أمام المحكمة، إن كانت الأولى فليترك الأمر للقضاء يقول كلمته، وإن كانت الثانية فإن الثورة لم تصل إليهم بعد، وإن كانت الثالثة فليتذكروا أن الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه وقف أمام القضاء. ويؤكد القاضى أن الخلاف العلمى لم يكن له مكان فى المعركة، بل كان الصخب والعنف عنوانها، لاسيما من أنصار الشيخ الحوينى، أما الخلاف العلمى المنضبط فقد مورس من قبل حين قام أحد الكتاب بانتقاد كتاب للمفتى بأسلوب رصين لا غبار عليه، وكذلك من قبل فى معركة الغزالى وخالد محمد خالد، ود. عمارة وجابر الأنصارى، وكذلك كتاب خالد الشافعى ود. سيد القمنى وبلال فضل، فلم يحدث تطاول من طرف لآخر، بل كان النقاش العلمى بالحجة والبرهان. وما حدث من أنصار الحوينى من الدعوة لإقالة المفتى لن يكون لها صدى إلا الضجيج طالما أنها جاءت من أيديولوجية ولم يتحرك لها أهل الشأن أنفسهم وهم العاملون بالإفتاء. كما أن أنصار الحوينى يغلبون روح الانتقام من المفتى على روح الهداية، ونفسية المنتقص على نفسية الساتر، ويتعمدون ترك الحسنات وإظهار المساوئ، وهذا مخالف لمذهب السلف الصالح حين قال ابن تيمية: مذهب أهل السلف أن الرجل تكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم، فيحب من وجهة نظر ويبغض من أخرى. وقول المفتى بأن السلفيين متشددون ويتمسكون بالقشور ليس بدعا، فقد قاله من قبل كثيرون لهم شأن مثل د. عبدالحليم محمود والغزالى و الشعراوى وجاد الحق والقرضاوى، ود. نصر فريد واصل وغيرهم، ولم ينكر عليهم أحد ذلك. إلى جانب أن هناك قوى شوهت السلفيين، لأنها نظرت إلى سقطاتهم فقط لا إلى منهجهم الكلى، وتقييم الرجال إنما يكون من خلال الإنتاج الكلى لا السقطات والزلات، ذلك ما يؤكده د. ضياء رشوان المتخصص فى شئون الجماعات الإسلامية، ومدير مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، مؤكدا أن أزمة المفتى والحوينى صراع مرجعيات، المرجعية السلفية الوهابية مقابل المرجعية الأزهرية الأشعرية التى تمثل التيار المهيمن على الأزهر تاريخيا، وهذا الصراع كان موجودا منذ بداية القرن العشرين، لكنه ظهر على السطح بعد ثورة 25 يناير 2011، ثم تيقنت التيارات الإسلامية من أن هناك دولة تذهب، وخارطة جديدة ترسم، فكان الجهر بالصراع والتصريح به، لكن هذا الصراع لن يكون مفيدا للحالة المصرية من وجهة نظره ، حيث إن مصر تئن بضغوطات اقتصادية وسياسية واجتماعية كثيرة، كما يرى د. رشوان أن الأزمة غير مبررة، لأن السلفيين اصطفوا خلف شيخهم، مما سيؤدى إلى اصطفاف باقى التيارات الدينية التى يقلقها الوجود السلفى فى مصر خلف جبهة د. على جمعة، وهو ما بدأ يظهر بالفعل. وانتقد د. رشوان الجماعة السلفية لقيامهما بشخصنة القضية، فالمفتى عندما سلك طريق التقاضى قام جمهور السلفيين باعتصامات تستبق أحكام القضاء وتشكل ضغطا عليه، فى الوقت نفسه يرى د. رشوان أن مطالبات السلفيين بإقالة المفتى د. على جمعة باعتباره منحازا ضد شريحة عريضة من الشعب - كما يقول السلفيون - مشروعة، لكن الضغط فى سبيل تحقيقها يجب أن يتم عبر مؤسسات الدولة وعبر برلمانها المنتخب.