بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وبالتوازى مع اعتبار سكرتير عام حلف الأطلنطى ويلى كلايس عام 1992 "الإسلام هو العدو الجديد"، بعد سقوط الشيوعية، وضعت الإدارة الأمريكية "الديمقراطية" - مع بدء فترة الولاية الأولى للرئيس بيل كلينتون (يناير 93 - يناير 1997) -ضمن أولوياتها قضايا الأقليات تحت عنوان "حماية حقوق الأقليات فى العالم". وتحت هذا العنوان أنشأت الإدارة "لجنة متابعة الحريات الدينية" لتصدر تقريرا سنويا حول أوضاع الأقليات الدينية فى دول العالم لرصد سياسات ممارسات الاضطهاد والتمييز، وشملت الأقليات العرقية والإثنية واللغوية والمذهبية (داخل الدين الواحد) والطوائف (داخل البلد الواحد)، ومن ثم باتت الدول التى تتسم بالتنوع هى المستهدفة من وراء هذا التقرير أو بالأحرى من هذه السياسة. ودشنت تلك اللجنة باكورة أعمالها - لكى تحظى بالمقبولية فى العالم الإسلامى - فى شرق أوروبا، بمسلمى البوسنة والهرسك وإقليم كوسوفو بيوغوسلافيا السابقة (صربيا)، واتخذت وشنت الحرب على يوغوسلافيا، وواكبت السياسة الأمريكية هذا التوجه بجملة علاقات عامة دولية، سخرت فيها وسائل إعلام وفضائيات عربية وغربية للترويج لهذه "السياسة الإنسانية"!! بموازاة احتضان زعماء وجماعات وممثلى أقليات (معارضة) من دول العالم، لاسيما من العالمين - العربى والإسلامى - أتاحت لهم الفرصة وفتحت لهم النوافذ تحت شعار "حرية التعبير". فى العام 1993، تم إلقاء قنبلة الأقليات على العالم العربى بمفاجأة أستاذ علم الاجتماع الدكتور سعد الدين إبراهيم - مصر والعالم العربى - بالدعوة إلى عقد مؤتمر حول الأقليات فى المنطقة بالقاهرة، وذلك من خلال مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، وأدرج ضمن قائمة الأقليات أقباط مصر والنوبيين فى الجنوب والأمازيغ فى المغرب العربي، والمسيحيين فى جنوب السودان، والأكراد فى العراق، وغيرهم فى البلدان العربية والإسلامية، قبل أن يطرح تقريراً لمجموعة الأزمات الدولية (صاحبة تقرير استقلال كوسوفو) عام 2009 ما أسمته مسألة "شعب سيناء"! وبرغم نقل المؤتمر إلى قبرص فى حينه تحت ضغوط الرأى العام والرفض الشعبى فى مصر، فإن مفاعيل "القنبلة" استمرت لتطول شظاياها مصر والمنطقة. ومع استلام الإدارة الأمريكية الجمهورية برئاسة جورج بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزارايس السلطة - بعد فترتى كلينتون - أعيد طرح الموضوع كبند ضمن مشروع لمستقبل (أمريكي) للمنطقة، وبزخم لا سابق له مع غزو العراق 2003 تحت مظلة الديمقراطية وحقوق الإنسان، فكان مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، وسيناريوهات "الفوضى الخلاقة"، الشعارات البراقة مثل الإصلاح السياسى ودعم المجتمع المدني، ووفرت عدم ديمقراطية الأنظمة العربية الحاكمة الفرصة للترويج للمشروع ونفاذه، كما شكلت الرغبة فى البقاء فى السلطة نقطة ضعف هذه الأنظمة لتسهيل تمرير المشروع، وسببا رئيسيا لعجز تلك الأنظمة أمام اتهام الولاياتالمتحدة لها بأن غياب الديمقراطية فى مجتمعاتها والاستبداد والفساد توفر بيئة مثالية للإرهاب الذى انطلق ليضرب نيويورك فى سبتمبر 2001، ومن ثم تحميلها جزءا كبيرا من مسئولية الهجمات الإرهابية التى ضربت نيويورك. هنا ملاحظة مثيرة وهى أن غالبية المتهمين هم أنظمة حكم ترتبط بعلاقات تحالف إستراتيجى مع الولاياتالمتحدة، وأن هذه الأنظمة انخرطت فيما سمى ب "منتدى المستقبل"، الذى اخترعته الولاياتالمتحدة كمنتدى لمناقشة أفكار الشرق الأوسط الجديد وتوابعه، فكأنما اعترفت ضمنيا بالاتهامات الأمريكية من دون أن تشعر تلك الأنظمة بالخجل أمام شعوبها، ولم يسأل أحد الولاياتالمتحدة عن حقوق الأقليات (العربية) فى إسرائيل أو حقوق "الأقلية المسيحية فى فلسطين، ناهيك عن حقوق الشعب الفلسطينى أساسا، بل على العكس، فإن السياسة الأمريكية والخطاب السياسى للإدارة سواء ديمقراطية أم جمهورية وضعا إسرائيل ضمن قائمة الأقليات المضطهدة فى المنطقة لا العكس؟! هذا المشروع ينطلق بالأساس من الالتزام الأمريكى بأمن دولة إسرائيل، والحفاظ على بقائها ضد أى تهديدات تمس وجودها. فمع أى مؤشرات لفقد الدولة العبرية مبرر وجودها، تخترع واشنطن وإسرائيل عناوين تفرضانها على أجندة دول المنطقة لخلق أوضاع تعطى إسرائيل صلاحية أطول للبقاء وسط المحيط العربى الإسلامى. والعنوان المطروح هذه المرحلة هو أوضاع "الأقليات" مع صعود تيارات الإسلام السياسى فى بلدان الثورات والانتفاضات العربية، كباب لتقسيم المنطقة إلى دويلات على أساس دينى (كإسرائيل) أو عرقى أو إثنى - أو طائفي، حتى لا تكون إسرائيل دولة فريدة من نوعها بل بين دول تشبهها، وربما تصادقها مثلما الحال بالنسبة للدولة الوليدة فى جنوب السودان.. يدعو للأسف أن لا العالم الإسلامى ولا العربى يطرحان من خلال مؤسساته، لاسيما الجامعة العربية رؤية سواء للتعامل مع السياسة الأمريكية أم لتدارك أوضاع أقلياته، على العكس لبس ساسة ومسئولون كبار العمائم ورحبوا بالتدخل العسكرى الأمريكي، وسقطوا فى حبائل الخداع - عمدا أو سهوا - بينما هم أنفسهم الذين يملأون الدنيا ضجيجا عند الحديث عن الحريات والأقليات فى بلدانهم، ويتحصنون بالسيادة الوطنية، و فى نفس الوقت يتلهفون لالتقاط الصور مع أى مسئول أمريكي، ويتنادون لتوجيه الدعوات ، ويتهافتون للمشاركة فى المنتديات التى تتحدث عن المستقبل.. يا للمفارقات فى عالمنا العربى.. فالثورات مستمرة.. والفوضى أيضا.