د. عمار على حسن لم يكن فى بيتنا شيء أضخم منه. ما إن أفتح الباب حتى يملأ عينيَّ. فى أغلب الأوقات أكون عائدًا فى ظمأ شديد فأجرى إليه. أرفع غطاءه الخشبى السميك من مقبض حديدي، وأغمس فى مائه الغزير كوزًا كبيرُا من الألومنيوم معلقًا فى الغطاء بسلسلة رفيعة، منطفئ لمعانها، حتى يمتلئ، ثم أعب منه حتى أرتوي. كان يقف كقبة شيخ مبروك على أكتاف من حديد صلب، تسمح لقعره المدبب أن يطل على الحوض الأسمنتى الضحل الراقد تحته، وتمسكه من وسطه السمين، فيصلب عوده دومًا فى وجه كل الذين يتشاكسون حوله: الصغار والدجاج والنعاج الخارجة إلى الحقل والآيبة منه، وكلبنا الأبيض الذى طالما أضبطه يخرج لسانه ويدسه فى الحوض ويسحب من الماء حتى يشبع. كان ينضح من جنباته ماء صافيًا، ويختزنه تحته، يضاف إليه ما يتبقى من شربنا، ونسكبه، بعد أن قالت لنا أمي، أنا وإخوتي: اغرفوا على قدر الحاجة. كانت تؤنب من يخالفها منا، لأن هذا يكلفها أن تذهب كثيرًا إلى الطلمبة الكائنة أمام بيت جيراننا، لتملأ البلاص مرات ومرات حتى يفيض الزير. وإذا تأخرت أمى فى وضع الماء للدجاج فى حظيرته، فهو يعرف طريق مورده. يتسلل الديك الأحمر الوحيد الذى نجا من الذبح ليستطلع موضع الأقدام، وخلفه الدجاجات مطمئنات، حتى يصل إلى الحوض الإسمنتي. يمد رقبته، ويشرب أولا، ثم يتقهقر مفسحًا الطريق لرعاياه، ويقف على مقربة ليراقب، فإذا هلَّ أحد من أهل البيت صاح، فتهرع الدجاجات، وهو خلفها، عائدة إلى الحظيرة. أحيانًا يتسع لها الوقت فتقصف أعواد القمح النابتة حول الحوض، والتى تنتظر عطاء الشمس المتسللة من كوة فى السقف، وتحط بعض الماء وهى تزاور بعيدًا عن جسد الزير، فيبقى ماؤه باردًا. حين جاء الزير جديدًا إلى بيتنا كان بنيًا، ثم راح لونه يزداد قتامة حتى صار بين البنى والأسود، بفعل الأملاح الذائبة فى الماء، التى تتخلل مسامه، وأيدينا التى تحط عليه ليل نهار، وذرات التراب التى تلتصق به حين تضرب أمى مقشتها لتكنس صالة البيت. لم يكن زير الماء هو الوحيد فى بيتنا، فهناك آخر للبن، تسكب أمى فى جوفه كل يوم لبنًا أخذت منه زبدته، فيطفو على سطح القديم المتخمر، ثم يصير مثله مع الأيام، متماسك القوام، ولاذعا وحامضا، نجزع منه حين نضعه فى أفواهنا، وتقشعر أبداننا، فتضع أمى عليه بعض الكمون والزيت أو السمن المقدوح، وإلى جانبه حبات من الطماطم، وحزمة بصل أخضر، وقرون من الفلفل الحار، فنستسيغ طعمه، وهى تقول لنا: لبن الزير مغذٍ. لم يكن طعامنا هو السبب فى تخزين اللبن على هذا النحو، إنما هو لصنع «الكشك». تضع أمى القمح فى حلل ضخمة، توقد تحتها النار، حتى يُسلق القمح، ثم يتم تجفيفه وهرسه بين شقى رحى، وبعدها عجنه بلبن الزير، وتقطيعه إلى قطع صغيرة، تُفرش على حصر فوق السطح لتقبلها الشمس العفية، وتسرق منها طراوتها، وتتركها لنا صلبة، فنعبئها فى قفف وأجولة، وتصير زاد الجائعين فى البيوت والحقول وعلى الجسور، بعد أن تنقع فى الماء، وتُرمى فى سمن مقدوح على النار، ولو كان الحظ مواتيًا، نكسر فوقها بيضات، ونقلبها جيدًا. أما الأشهى فهو الكشك المطبوخ بمرق اللحم، لاسيما فى الأفراح. حين تملأ به الصحون، وتتسابق إليها أيدى الجائعين. ما لا أنساه هو ذلك الاستخدام العجيب للبن الزير. فذات يوم كنت عائدًا من الحقل أهش عن رأسى بقايا حر يوم قائظ، حين اقتحم عينى كائن أبيض صغير، يجلس على الأرض وفوقه أصابع أمي، وإلى جانبها جارتنا تقف مطأطأة الرأس، وعلى وجهها يحط الأسى. اقتربت منهما، وسألت مندهشًا، وأنا أشير إلى الكائن الأبيض: ما هذا؟ أجابت أمي، وهى ترفع كفيها البيضاوين فى وجهي: «سامي»، ابن جارتنا، ألا تعرفه؟ حملقت فيه فلم أر مما أعرفه منه شيئًا، فأجبتها بسؤال: أمعقول أنه هو؟ نعم، لكننا دهناه بلبن الزير، ليشفى من الحُمى. اليوم لم يعد لزير الماء مكان فى أغلب بيوت قريتنا، بعد أن امتدت فى قلوب الحوائط الحجرية مواسير للمياه العذبة، تنتهى إلى صنابير، تنتظر أصابعنا أن تحرك مفاتيحها كى يتدفق الماء. وغاب أيضًا زير اللبن، وأصبح أغلبنا يشترى «الكشك» من البندر إن اشتهى أكله. واستسهل الناس تنظيم أفراحهم فى قاعات، توزع فيها جاتوهات وزجاجات مياه غازية، وصار كل من تسرى فى أوصاله سخونة يهرع إلى الطبيب. غاب الزير وجاء مكانه حوض من القيشانى الأبيض، فى منتصفه صنبور فضي، يلمع فى شمس الضحى، ويعكس الضوء الدافئ على خزانة من الصاج، تكدست فيها بعض أشياء أمى القديمة. حين عدت إلى البيت بعد طول غياب، لم أر كل هذا الجديد، إنما الزير فى مكانه يقف مرفوع الهامة فوق حوض إسمنت، ينز منه الماء. لكننى حين مددت يدى لأرفع الغطاء، وأغرف ماء عذبًا باردًا، اصطدمت أصابعى بالقيشانى الأملس، فانزلفت إلى جانبي، وسمعت صوت أمى يأتى من خلفي: أتريد أن تشرب؟ هززت رأسي، وقلت لها: يا ليت شربى كان من الزير.