شئ من العاطفة قد يصلح ما أفسدته الخصومات السياسية والفكرية بين أطراف الحوار العام في مصر, وهي خصومات وصلت إلي درجة من الاستقطاب, جعلت كل طرف متشبثا بموقفه المعلن, بحيث يستحيل علي العقل وحده أن يصنع التوافق الضروري لعبور هذه المرحلة الانتقالية, فلابد إذن من إفساح المجال لقدر من العاطفة الوطنية التي قد تساعد علي تهدئة الخصومة. ولا شئ يثير أنبل ما في الإنسان من عواطف أكثر من الشعر والشعراء, خاصة عندما يكون الشاعر قد صار صوت وضمير أمة بأكملها, وفي تاريخنا الحديث اتفق علي أن حافظ إبراهيم كان هذا الرجل, ولذا لقب بشاعر النيل. فكم عدد الذين يتذكرون من بيننا المناسبة التي جادت فيها قريحة حافظ بقصيدته الخالدة مصر تتحدث عن نفسها, التي تغنت بها أم كلثوم, وكان ولايزال من أشهر أبياتها البيتان اللذان يقول فيهما: نحن نجتاز موقفا تعثر الآراء فيه وعثرة الرأي تردي نظر الله لي فأرشد أبنائي فشدوا للعلا أي شد فإلي من يتذكرون ذلك الموقف الذي وصفه شاعر النيل بأنه موقف تعثر الآراء فيه, محذرا من أن أي عثرة في هذا الموقف سوف تردي مصر كلها, وإلي من لايتذكرون هذا الموقف, نقول إنه يشبه من كل الوجوه الموقف الذي تجتازه مصر الآن, فقد ألقيت هذه القصيدة الحافلة بالعواطف الجياشة والآمال العريضة, احتفالا واحتفاء بقيام الائتلاف الوطني لإنقاذ المكتسبات الوطنية لثورة1919 من الضياع, بسبب أزمة اغتيال السردار الانجليزي السير لي ستاك, الذي كان قائدا للجيش المصري وقتها, وكان هذا الحادث قد أدي إلي سلسلة من الكوارث فرضت علي مصر بقوة الاحتلال البريطاني, مما أدي إلي استقالة سعد زغلول زعيم الثورة وحكومته الوفدية, وقيام حكومة أحمد زيوار باشا التي سميت حكومة إنقاذ مايمكن إنقاذه, وتأملوا معي هذا الوصف, وسوف تتفقون معي في النتيجة وهي أن الخطر كان كاسحا, واجتمع حزب الأغلبية( الوفد) والأحزاب الأخري علي رفض هذه الحكومة, كما أنها في الأصل لم تكن حكومة منتخبة, ومن ثم كان لابد من حل البرلمان, وإذا استمر الوضع علي ماهو عليه, فسوف يعني ذلك العودة بالنظام السياسي إلي ما قبل ثورة1919 وصدور دستور1923, المترتب أصلا علي إنهاء الحماية البريطانية. والنتيجة النهائية لذلك كله هي سقوط الحكم النيابي, وعودة السلطة لتتركز في يد القصر الملكي وحكومة من اختياره هو, وبذلك يحرم الشعب مرة أخري من حكم نفسه بنفسه, ويضيع أهم إنجاز لثورة.1919 ولكن الشعب وزعماءه يرون في الوقت نفسه ذ, اب ذ ذ, قد وضع فيتو بلا استئناف او نقض علي عودة سعد لرئاسة الحكومة, مهما يكن الثمن, وأصبح الموقف كالتالي, الشعب والأحزاب يريدون الحكم النيابي, والحكم النيابي معناه عودة سعد زغلول لرئاسة الحكومة, والاحتلال يرفض تلك العودة من حيث المبدأ, ويهدد بإعادة فرض الحماية علي مصر في هذه الحالة, وحكمها حكما مباشرا من لندن.. فماذا فعل المصريون, وجعل حافظ إبراهيم يهتز طربا ويتغني بمصر قائلا: وقف الخلق ينظرون جميعا.. كيف أبني قواعد المجد وحدي ماحدث هو أن زعماء الحزبين الكبيرين وقتها تداعوا إلي التوافق أو الائتلاف علي برنامج يضمن عودة الحكم النيابي, ولايعرض استقلال البلادالوليد والمحدود للضياع, ويمحو آثار ثورة1919 التي سالت فيها دماء شهداء الوطنية المصرية أنهارا, وكان ملخص هذا البرنامج أن تجري الانتخابات علي أساس ائتلافي, بحيث يترك حزب الوفد صاحب الأغلبية الكاسحة طوعا نسبة معقولة من المقاعد للأحزاب الأخري, وكانت الوسيلة لتحقيق هذه الغاية هي عدم تقدم مرشحين وفديين لدوائر بعينها حتي لا يزاحموا مرشحي تلك الأحزاب الأخري, وبعد أن ينتخب هذا البرلمان التوافقي تتشكل حكومة ائتلاف, ولا يرأسها سعد زغلول, وإنما يرأسها عدلي يكن أحد مؤسسي حزب الأحرار الدستوريين, في حين يلتزم سعد الذي سوف يرأس مجلس النواب بضمان تأييد الأغلبية البرلمانية لهذه الحكومة الائتلافية, وكان هذا ماحدث حرفيا, واجتازت مصر ذلك الموقف العصيب الذي تعثر الآراء فيه, كما قال شاعرها حافظ إبراهيم, وبلغ من نجاح تلك الصيغة التوافقية أنها لم تسقط حين غضب عدلي من رفض مجلس النواب توجيه الشكر للحكومة في مناسبة معينة, وقرر الاستقالة مع أن الثقة لم تكن قد سحبت منه, فقد اتفق علي الفور أن يخلفه في رئاسة الحكومة عبد الخالق ثروت الحر الدستوري أيضا ويبقي الائتلاف قائما, وكان يمكن لذلك الائتلاف الكبير أن يحقق لمصر الكثير, ويجنبها العثرات التي عطلت تحقيق الاستقلال التام, لولا أن الملك فؤاد بنفسه هو الذي تآمر لتمزيق حكومة الوحدة الوطنية هذه. السؤال الآن: كيف تشبه الليلة البارحة؟ الإجابة باختصار شديد هي أنه لدي القوي المطالبة بالدولة المدنية مخاوف قد يكون مبالغا فيها ولكنها مشروعة ومبررة من حصول التيارات الدينية علي أغلبية مقاعد البرلمان المقبل, لأنها الأكثر تنظيما, والأقدر تمويلا, والأكثر اعتمادا علي العاطفة الدينية القوية لدي المصريين, ولكن هذه التيارات الدينية من حقها أن تشارك, وألا تعاقب علي قوتها, وعلي ضعف الآخرين, وفي الوقت نفسه, وبالقدر نفسه من الأهمية لمستقبل مصر ألا تهيمن التيارات الدينية علي بلاد فيها مواطنون غير مسلمين, وفيها مسلمون غير منتمين لهذه التيارات, وفيها مؤسسات تري أن الدولة المدنية في مصر قضية أمن قومي, وبالمناسبة فليست المؤسسة العسكرية وحدها هي التي تري هذا الرأي, فتلك أيضا هي رؤية أغلبية المفكرين المستقلين, ورؤية التيار الرئيسي في الجهاز الإداري للدولة, وكذلك رؤية غالبية المؤسسات الاقتصادية والمهنية في البلاد, بل إنها رؤية الأزهر نفسه, وهو ماهو بالنسبة للإسلام والمسلمين في مصر وفي خارجها. إذن: ألسنا في موقف تعثر الآراء فيه؟ وإذن أليس من حق مصر إن تحدثت من قلبها أن تدعو الله أن ينظر إليها فيرشد أبناءها ليشدوا إلي العلا أي شد.. كما فرح حافظ إبراهيم بائتلاف الوفد والأحرار الدستوريين عام1926, وهو مادعونا إليه بالعقل في مقالات كثيرة سابقة, ونعززه اليوم بشئ من العاطفة.. لعل وعسي أن يتنازل كل طرف عن شئ مما يظن أنه حقه من أجل بناء مجد مصر, وليس لإنقاذ مايمكن إنقاذه فقط. المزيد من مقالات عبدالعظيم حماد