حين كتبت في مقال قريب عن الأساتذة الذين علمونا من جيل الأجداد والآباء إلي جيلنا نحن المخضرمين المنتسبين وفقا للتصنيفات النقدية إلي ماأطلق عليه جيل الستينيات كان في نيتي أن أتعرض لكل أستاذ منهم في مقال مستقل أحاول فيه أن أشرح بإسهاب مايربطني به فنيا من علاقة الأستاذ بالتلميذ, ولكن يحدث دائما مايسحب القلم بعيدا عن صفحة ويرحل به إلي صفحة أخري تبدو أكثر إلحاحا ولكني بعدها أحسست بذلك القلق الداخلي الذي يساور أعماق الكاتب حين يدرك أنه قد أرجأ ما لا يجب إرجاؤه أو نسي مالا يصح نسيانه. تلك كانت حالتي مع واحد من أهم الأساتذة الذين أثروا بعمق في أبناء جيلي, وقد يبدو أن تقترن صورة الأستاذ إحسان عبدالقدوس بنوع من تعدد الألوان فهو أولا ذلك الكاتب السياسي المرموق الذي يمتطي صهوة روزاليوسف ويطلق منها تلك المعارك السياسية التي تهز أركان المناخ السياسي في مصر لايهاب فيها سلطة ملكية باطشة ولا تنكيل وزارة حاكمة, ولا أشير هنا إلي معركته الشهيرة التي فجرت قضية الأسلحة الفاسدة التي استخدمت في حرب فلسطين فرغم الجرأة والجسارة التي اتصف بها قلم إحسان وهو يخوض ويحاول أن يفضح مؤامرة خطيرة كانت في الواقع سببا من أهم أسباب الهزيمة التي مني بها الجيش المصري هناك وعاد من الحرب وقد اختمرت فكرة الثورة في أعماق الضباط الذين خرجوا من ثكناتهم صبيحة الثالث والعشرين من يوليو1952 وقد خرجوا ولم يعودوا إذ أغرتهم السلطة وحلل لهم مستشارو السوء مشروعية البقاء في الحكم, ومنذ بدت تباشير الاتجاه الحتمي إلي الديكتاتورية العسكرية أدرك إحسان أنه لن يستطيع التواؤم بقلمه أو بفكره أو بشخصه مع هذا الاتجاه وقرر أن ينأي بنفسه عن الكتابة السياسية خاصة بعد أن وصل الأمر إلي اعتقاله لفترة صالحه بعدها جمال عبدالناصر وأرجعه إلي حيث كان.. وكان إحسان قد قرر ولا سبيل عنده للرجوع عن قراره وأعتقد اليوم أن هذا القرار ربما حرم المصريين من قلم سياسي حر ولكنه في رأيي منحهم ذلك الروائي القاص الذي غرد منذ أول سطر كتبه كعصفور الكناريا الذي حوم حولنا ليثير الكثير من البهجة والمتعة. كان لقائي الأول مع إحسان عبدالقدوس وأنا في فترة المراهقة ووقعت في يدي نسخة من روزاليوسف كانت تنشر الفصل الأول من رواية الوسادة الخالية وأدخلتني الرواية دائرة من دوائر السحر لايزال يحيط بي حتي الآن ربما لأنها توافقت مع أحاسيس المراهقة المرهفة وتلك الرومانسية التي تدفع الدموع إلي عينيك وتمنحك بريق الحلم مع أي لمسة أو نظرة أو ابتسامة... ليلتها لم أنم: أريد أن أعرف ماذا حدث بين سميحة وصلاح وقد توحدت بشدة مع شخصية البطل كما هي العادة وظللت أنتظر عدد الأسبوع التالي وقيل لي وقتها إن المجلة تختطف بمجرد وصول أعدادها إلي محطة كفر الشيخ بلدي فلم أكتف بتوصية موزع الصحف وإنما طلبت من جدتي رحمها الله أن توقظني عند الفجر وهرعت إلي المحطة أنتظر وصول قطار السابعة صباحا القادم من القاهرة يحمل الصحف والمجلات ويتكرر المشهد مع كل عدد وتنتهي الوسادة الخالية لتبدأ بعدها رواية أخري.. لم أعد أذكر الترتيب ولكني أحفر أسماء الروايات في ذهني: الطريق المسدود لاتطفئ الشمس أنا حرة لاشئ يهم في بيتنا رجل وأريد أن أتحدث عن تأثير هذه الروايات في تكوين وجداني الفني والنفسي. لأقول في البداية إن إحسان لم يكن أبدا كاتبا سهلا ولم يكن أبدا من كتاب حواديت التبات والنبات ففي كل رواية كتبها كان يتناول قضية ولم تكن قضاياه كما شاع لدي البعض قضايا شريحة بعينها من شرائح طبقة البرجوازية العليا ورواد النوادي والبلاجات الفاخرة وفي روايتيه في بيتنا رجل وأنا حرة علي سبيل المثال كانت قضاياه اجتماعية وأبطاله ينتمون إلي الطبقة الوسطي الصغيرة وهذا بلاشك أحد مفاتيح الدخول إلي عالم إحسان عبدالقدوس. في عالم هذا الفنان الجميل تعلمت كيف أحمل قلبي علي سن قلمي وكيف أكتب بمشاعري قبل أن أكتب بخواطري وفيه أيضا تعلمت أن التقييم الحقيقي للمنتج الابداعي لابد أن يستند إلي الشحنة الانفعالية أو العاطفية التي يوصلها الكاتب إلي قارئه. وقد يجرنا هذا إلي إشكالية علاقة الصعوبة والمشقة بالنجاح والتفوق, وبعيدا عن مصر سنجد الأمثلة مطروحة في كل مكتبات وأرصفة الكتب في فرنسا, مثلا تستطيع أن تقرأ رائعة مارسيل بروست البحث عن الزمن الضائع.. وستلقي في قراءتها المشقة والصعوبة التي تجعل من الضروري أن يقرأها معك خبير في فك الألغاز.. نفس الوضع حين يعن لك أن تقرأ مثيلتها في الأدب الانجليزي عوليس فينجاترويك فالقراءة معضلة حقيقية ولكننا لانستطيع أن ندعي أن أحدهما بروست جيمس جويس هو سيد كتاب بلده.. ببساطة لايمكننا أن نتجاهل زولا أو بلزاك في فرنسا ولا ديكنز أو توماس هاردي في انجلترا. المسألة باختصار: الكاتب الذي يعزف علي أوتارك ويتسلل إلي عقلك ويوقظ داخلك الانتباه لأحوال بلدك هو الكاتب الذي تحب وتحترم ونحن نحب إحسان ونحترمه. المزيد من مقالات أسامه أنور عكاشه