قامت حركة الجيش في يوليو 1952, وتحولت إلي ثورة باحتضان الشعب لها واتخاذها إجراءات ثورية, في الإيقاع وفي المقاصد, لتحقيق أهدافها المعلنة. ومعروف أن الحركة- الثورة قامت من دون فلسفة عقدية متبلورة كما اعترف قائدها الفعلي جمال عبد الناصر في كتاب فلسفة الثورة. وإنما تبنت الحركة ستة من الأهداف البراجماتية استقتها من معاناة فساد الحكم الملكي واستبداده, ولم يكن غريبا أن شكلت أهداف الثورة, في الأساس, نفيا لنقائص الحكم التسلطي الفاسد الذي قامت لمناهضته, في فكر من قاموا بها. وكانت أهداف الثورة الستة, كما هو معروف, هي: القضاء علي الاستعمار, القضاء علي الإقطاع, القضاء علي سيطرة رأس المال علي الحكم, إقامة جيش وطني قوي, إقامة ديموقراطيه سليمه, إقامة العدالة الاجتماعية. وربما يتفق القارئ معي في أن نظام الحكم الذي أقامته ثورة 1952, وخضع لتعديلات تحت الرئيس الثاني السادات, ثم لتحويرات أساسية تحت الرئيس الثالث مبارك, ظل تسلطيا في الجوهر, وإن حاول إضفاء مسحة شكلية من الديموقراطية المزيفة اختلفت ملامحها مع كل مرحلة. والرؤساء الثلاثة بالمناسبة عسكريون, واختار كل من عبد الناصر والسادات خلفه بصورة استبدادية لم يكن للشعب فيها من رأي, وكان الثالث علي وشك توريث الحكم لابنه, وإن أبدي مراوغة أو تمنعا أحيانا. ولكن البلد تحمل مغارم الاختيار بالكامل في الحالات الثلاث. وعندي أن غياب الحكم الديمقراطي الصالح كان مقتل نظام الحكم هذا, ومناط قلة تحقق أهدافه. في النهاية, وبعد قرابة ستة عقود من تنويعات علي الحكم التسلطي القائم في الجوهر علي المؤسسة العسكرية, فشل نظام الحكم الذي أقامته ثورة 1952, في تحقيق غايات الثورة. بل نزعم أن نظام الحكم التسلطي قد عضد من أضداد بعض أهدافه المعلنة مكرسا النقائص التي قامت الثورة لنقضها, حتي أصبحت المرحلة الثالثة من نظام الحكم التسلطي هذا مضرب المثل في الفساد والاستبداد في المنطقة كلها. وإن كان لا يعقل أن نقبل بالقطيعة بين المراحل الثلاث, خاصة أن المرحلتين الثانية والثالثة ظلتا تدعيان الانتماء للثورة الأصل, وبقي الانتماء للمؤسسة العسكرية, والإعلاء من شأنها, وتأمين ولائها, والإغداق علي رجالها, كضمانات للاحتماء بها, ديدن الرؤساء الثلاثة. ولم يكن غريبا, من ثم, أن قامت ثورة شعب مصر الفل في مطالع 2011 مستهدفة غايات ليست إلا صياغة مستحدثة لأهداف ثورة 1952: عيش حرية, عدالة اجتماعية, يطيب لنا أن نصيغها في غايات الحرية والعدل و الكرامة الإنسانية للجميع علي أرض الكنانة. ومعروف أن الثوار لم يصلوا لسدة الحكم عند تنحي الطاغية المخلوع منذ سبعة أشهر, وإنما انتهت السلطة إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة بحيث يصح القول في هذه الحالة, علي خلاف ثورة 1952, أن الثورة الشعبية أسلمت زمامها إلي حركة عسكرية تعهدت بحماية الثورة وضمان تحقق غاياتها, من خلال التحول إلي الحكم الديمقراطي الصالح خلال فترة قصيرة. والحق أن السلطة الانتقالية, أي المجلس الأعلي للقوات المسلحة وحكومته, قد أوفت إجمالا باتخاذ القرارات الكفيلة بتحقيق مطالب الثورة, وإن ليس بالإيقاع الثوري, السريع والحاسم, ولا بالكفاءة المنجزة. والأهم أن السلطة الانتقالية لم تكن تستجيب للمطالب إلا تحت ضغط الاحتجاج الشعبي الحاشد. وهكذا, في يوليو, بعد نحو ستة أشهر من النجاح الأولي المتمثل في إسقاط الطاغية, وجدت قوي الثورة التحررية الشعبية نفسها بحاجة إلي شن موجة ثانية من الفعل التحرري من خلال التظاهر والاعتصام, احتجاجا علي تباطؤ السلطة الانتقالية في التخلص من بقايا النظام الساقط وعقابها علي ما اقترفت في حق الشعب والبلد, ليس ثأرا جموحا ولكن عبرة للمستقبل, وعلي تقاعس السلطة الانتقالية عن التأسيس للتحول إلي الحكم الديمقراطي الصالح كبداية لاكتمال الثورة, بالإيقاع الثوري السريع والفعل الثوري الحاسم, اللذين يصعب موضوعيا توقعهما من السلطة الانتقالية المكونة من أجيال طاعنة في السن, عاشت أغلب عمرها في ظل الحكم التسلطي, بل كانت مكونا عضويا له, وينتظر من ثم, أن تكون محافظة, ذهنيا وبيولوجيا, وميالة لتبني ذهنية العهد الساقط وأساليبه. هذا التضارب أنشأ تناقضا بين السلطة الانتقالية وقوي الثورة الشعبية, تباينت تجلياته حسب الحالة بينما ساد الشعور في الدوائر الثورية بتعثر مسيرة اكتمال الثورة واطراد نفوذ فلول النظام الذي قامت الثورة لإسقاطه, وعبثهم بتطورات المرحلة الانتقالية. حتي صار يبدو أن مجريات الأمور تسير في اتجاه ألا يعاقب أحد, جديا, خاصة إن كان من أصول عسكرية, علي نهب وفساد التشكيل العصابي الذي استبد بالبلاد وقتل المتظاهرين, وتستمر سياسات عصر الطاغية المخلوع وإعادة تأهيل شخوص النظام الساقط, بينما يتأكد عقاب الشباب الثائر علي التظاهر والاعتصام وتعمد تجاهل مطالب الثورة الشعبية وتفاقم الفقر. هذه دعوة صريحة لمن يروم نيل غايات ثورة الفل إلي شن موجة ثالثة من الثورة الشعبية, السبيل الوحيد الباقي للضغط من أجل الإصلاح في ظل السلطة الانتقالية الحاكمة. ولعل المثال الأبرز علي تقاعس السلطة الانتقالية عن تحقيق غايات الثورة هو محاكمة الطاغية المخلوع. إلا أن تطورات المحاكمة وما أحاط بها أثارت التساؤل عما إذا كانت تلك المحاكمة الهزلية مثلت آخر تنازلات السلطة الانتقالية للثورة الشعبية؟ إذ بعد المحاكمة مباشرة, أظهرت السلطة الانتقالية عزمها علي وأد أي احتمال لتجدد الفعل الثوري, من خلال منع التظاهر والاعتصام, بتوظيف تحالف من الشرطة العسكرية والمدنية, والأهالي من الشقاة الصعاليك المستأجرين إن اقتضي الأمر, بالعنف والأذي, وبالمخالفة الصريحة للإعلان الدستوري للمجلس الأعلي للقوات المسلحة نفسه ولكل المواثيق الدولية التي أعلن المجلس الأعلي للقوات المسلحة, والحكومة كلاهما, أنهما يحترمانها. وتنبع أهمية الملحوظة الأخيرة من أنه في ظل الإعلان الدستوري للمجلس, منح المجلس نفسه جماع صلاحيات السلطتين التنفيذية (رئيس الجمهورية) والتشريعية, مطلقة من دون أي إمكانية, ولو شكلية, للشعب لمجرد التعقيب علي قرارات المجلس, الحاكم بأمره, ناهيك عن مساءلة المجلس, تماما كما كان الحال في المراحل الثلاث لنظام حكم ثورة 1952 ومن ثم لا يبقي للشعب من سبيل للتعبير عن عدم الرضا عن التقاعس في حماية غايات الثورة إلا اساليب الاحتجاج الشعبي من خلال التجمع السلمي الذي يسعي المجلس العسكري لإجهاضه, ما ينشئ حالة من استعصاء التقدم نحو غايات الثورة, قد تعيد لو استمرت خبرة ثورة 1952, فتمر عقود من دون نيل غايات ثورة الفل, منشئة الحاجة إلي ثورة شعبية جديدة. ويتمثل صمام الأمان الوحيد المانع من تكرار خيبة ثورة 1952 التاريخية, في ضمان التحول إلي الحكم الديمقراطي الصالح في مصر, بحيث تكفل البني القانونية والمؤسسية الجديدة نيل غايات الثورة, وليس هذا مطلبا هينا. أما أي شكل من استنساخ النظام السابق, ولو مع قدر من التحسين الشكلي, فلن يفضي إلا إلي الحاجة إلي اندلاع ثورة شعبية قادمة, قد لا تكون سلمية كثورة الفل, ويتعين أن تنتهي إلي إمساك الثوار بالسلطة إن شاءوا أن يشهدوا نيل غاياتها في حياتهم. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى