{... ولتكملوا العدة ولتكبروا الله علي ما هداكم ولعلكم تشكرون}( البقرة:185). هذا النص القرآني الكريم جاء في أواخر الثلث الثاني من سورة البقرة, وهي سورة مدنية, وآياتها مئتان وست وثمانون(286) بعد البسملة. وسورة البقرة هي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي معجزة حسية أجراها الله- تعالي- علي يدي عبده ورسوله- موسي بن عمران- علي نبينا وعليه من الله السلام- حين تعرض شخص من قومه للقتل, ولم يعرف قاتله, وأوحي الله تعالي إلي عبده موسي أن يأمر قومه بذبح بقرة, وأن يضربوا الميت بجزء من لحمها, فيحيي الميت بإذن الله, ويخبر عن قاتله, حتي يقتص منه, ثم يموت مرة أخري حتي يكون في ذلك إحقاق للحق وشهادة لله- تعالي- بالقدرة علي إحياء الموتي. ويدور المحور الرئيس لسورة البقرة حول قضية التشريع الإسلامي, شأنها في ذلك شأن كل السور المدنية. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة, وما جاء فيها من التشريعات, وقواعد الأخلاق, وأسس العبادة, وركائز العقيدة, والقصص, والإشارات الكونية, ونركز هنا علي وجه الإعجاز التشريعي في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال. من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم يقول ربنا- تبارك وتعالي- في محكم كتابه: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله علي ما هداكم ولعلكم تشكرون( البقرة:185). ومن معاني هذه الآية الكريمة أن الله- تعالي- اختص رمضان من بين شهور السنة القمرية لإنزال القرآن الكريم فيه, ولذلك قال: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان... ويؤكد رسول الله-,- أن جميع ما نعلم من رسالات السماء قد أنزلت في شهر رمضان, فعن رسول الله-,- أنه قال أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان, وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان, وأنزل الزبور لثماني عشرة مضت من رمضان, وأنزل الإنجيل لثلاث عشر خلت من رمضان, وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان( رواه كل من الإمامين أحمد والطبراني). وكل من صحف إبراهيم والتوراة, والزبور, والإنجيل أنزل علي النبي الذي تلقاه جملة واحدة, أما القرآن الكريم فقد أنزل جملة واحدة من فوق سبع سماوات إلي بيت العزة من السماء الدنيا, ثم أنزل بعد ذلك علي خاتم ألأنبياء والمرسلين, منجما آية آية, أو بضع آيات بضع آيات, أو سورة سورة حسب الوقائع وأسباب النزول حتي اكتمل تنزل هذا الكتاب العزيز علي رسول الله, كما ذكر ابن عباس(رضي الله عنهما) الذي قال عن القرآن الكريم: إنه أنزل في رمضان, في ليلة القدر, وهي ليلة مباركة, جملة واحدة, ثم أنزل علي مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام. واختيار شهر رمضان لإنزال كل ما نعلم من الرسالات السماوية فيه تأكيد علي كرامة هذا الشهر عند رب العالمين, ومن هنا كانت فريضة الصيام فيه. والصيام هو أحب العبادات إلي الله- تعالي- لأنه لم يعبد بالصيام إلا الله القائل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به. وصوم رمضان واجب بالكتاب والسنة, وإجماع أهل العلم, ولذلك قال رسول الله,(1) من صام رمضان وعرف حدوده, وتحفظ مما كان ينبغي أن يتحفظ منه كفر ما قبله. (2) من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. (3) من أفطر يوما من رمضان, في غير رخصة رخصها الله له, لم يقض عنه صيام الدهر كله وإن صامه. وصوم رمضان واجب علي كل مسلم, بالغ عاقل, صحيح, مقيم, طاهر البدن. ويرخص بالفطر مع وجوب الفدية( إطعام مسكين عن كل يوم) لكل من الطاعنين في السن, والمرضي الذين لا يرجي لهم برء, وأصحاب الأعمال الشاقة الذين لا يجدون متسعا من الرزق في غير ما يزاولونه من أعمال. وكل من الحبلي والمرضع إذا خافت علي نفسها أو علي ولدها أفطرت وعليها الفدية أو القضاء, أو الفدية والقضاء, علي اختلاف بين الفقهاء. وكل من المسافر والمريض الذي يرجي برؤه, له أن يفطر, وعليه القضاء, وهي رخصة من الله- تعالي- فمن أخذ بها, فحسن, ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه( كما رواه مسلم عن رسول الله,). والسفر المبيح للفطر هو الذي تقصر الصلاة بسببه. وكل من الحائض والنفساء يجب عليها الفطر والقضاء. لذلك قال الله- تعالي-:... فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو علي سفر فعدة من أيام أخر... أي: أن الله- تعالي- رخص لعباده المؤمنين الفطر في حال المرض أو السفر ونحوهما من الأعذار التي أوضحناها سالفا, وذلك تيسيرا لهم ورحمة بهم, علي أن يقضوا عدة أيام فطرهم بعد ذلك حتي لا يحرموا أجر هذه العبادة الرفيعة القدر عند رب العالمين ولذلك قال تعالي-:.... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله علي ما هداكم ولعلكم تشكرون أي أن الله- تعالي- أمر كل من أفطر عددا من أيام شهر رمضان برخصة رخصها له ذ فلا يحرم أجر صيامه. وعلي كل مؤمن ومؤمنة أن يكبر الله- تعالي- عند إتمام صوم شهر رمضان كاملا, أو عند إتمامه بقضاء ما أفطر فيه من أيام برخصة. من هنا أخذت مشروعية التكبير في عيد الفطر, ومشروعية الشكر لله- تعالي- عند إتمام هذه الطاعة, وكل من التكبير والحمد لله من غايات فريضة الصوم في شهر رمضان ومن عبادات يوم عيد الفطر الذي سماه رسول الله, باسم يوم الجائزة لكل من صام شهر رمضان وقام ليله, وأحيا ثلثه الأخير, واجتهد في غير ذلك من العبادات إيمانا واحتسابا لوجه الله الكريم. وعيد الفطر هو بحق يوم الجائزة الكبري, لأنه هو يوم مغفرة الذنوب, والعتق من النار, وما أعظمها من جائزة. ومن هنا يتضح وجه الإعجاز التشريعي في فرض صيام شهر رمضان المبارك علي كل مسلم, بالغ, عاقل, صحيح, مقيم, طاهر البدن. فإن فاته شيء من ذلك برخصة رخصها له الله, فعليه القضاء أو الكفارة, أو كلاهما حسب ما أوضحنا سابقا حتي لا يحرم أجر هذه العبادة التي اختص الله- تعالي- ذاته العلية بها, فلم يعبد بالصوم أحد غير الله في كل صور الشرك التي انحطت إليها البشرية من زمن قوم نوح إلي يومنا الراهن. وانطلاقا من ذلك كله وجب علي كل من فاته صوم في شهر رمضان الذي انقضي أن يبادر بسداد ما عليه من صوم قبل مجيء شهر رمضان القادم إن شاء الله, حتي لا يحرم أجر الصوم في رمضان, وهو من أحب العبادات إلي الله في أحب الشهور إليه- سبحانه وتعالي- ولذلك شدد في التوصية بأدائه, وحذر من الإفطار فيه بغير رخصة.