هل يمكن أن يرفض احد فكرة الإصلاح؟ سؤال قد تبدو إجابته بديهية إلى الحد الذي قد لا يصح معه طرحه، فلا يمكن ان نفترض أن أحداً عاقلاً رشيداً يمكن أن يرفض مسألة الإصلاح فى أى مجال، سواء القضاء أو الشرطة أو الإعلام أو المجالس المحلية إلخ ... وطوال الأسابيع الماضية سيطر على تفكيري هذا السؤال إلى الحد الذي لم استطع معه الاسترسال فى كتابة أى مقال، لكن مع زيادة عدد مرات طرح السؤال على خلايا المخ لدى دفعني ذلك إلى طرح السؤال من خلال هذا المقال هرباً من ذلك الكابوس الذى لازال يطاردني بلا إجابة. والحقيقة أن طرح فكرة الإصلاح هو أمر شديد الحساسية رغم وجاهتها لأن قبول الفكرة يستتبع ضمناً الاعتراف بفساد أو على الأقل بخلل منظومة الجهاز المراد إصلاحه، وهو الأمر الذى يشكل بالأساس مناط الرفض للفكرة وهو أيضاً الأمر الذى قد يفسر المقاومة الشديدة لفكر الثورة و ثورة الإصلاح الذى ينادى به الجميع الان. ولكن مما لاشك فيه أن المعالجة الإعلامية لهذه المسألة ساهمت بشكل كبير فى هذا الرفض، فالإعلام الذى صار فى الفترة الأخيرة يميل دوماً إلى الإثارة واستخدام المصطلحات والألفاظ الرنانة دون أن يناقش بشكل موضوعى تلك الظواهر دفع الناس جميعاً إلى القاء الاتهامات ووضع المجتمع بالكامل فى خانة دفاعية وهو ما يستتبع بالضرورة رفض الاعتراف بالخلل ومحاولة إجهاض أى توجه نحو الإصلاح الذى بدا من وجهة نظر الجميع محاولة لإثبات الفساد وضرورة التطهير وليس التطهر. مصر الان تمر بمرحلة فارقة فى التاريخ المعاصر، يزعم فيها الجميع ان لديهم رغبة قوية جداً فى الانطلاق لآفاق التقدم وأن الفرصة سانحة لذلك بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وهو أمر قد يبدو ممكناً لولا أن إرادات الناس لازالت غير قادرة على تجاوز المصالح الشخصية الضيقة إلى مصالح أوسع وأشمل هى مصلحة الوطن.. فالصراع السياسي الواضح بين أطياف المجتمع للسيطرة على الانتخابات القادمة كل لصالحه لم يكن أبداً ضرورياً بل على العكس كان من المفترض التخلى عن ممارسات الحزب الوطنى القديم الذى كان دوماً يصر على السيطرة الكاملة على كافة الدوائر وكان يرفض ان يترك إلا نسبة معينة يسمح بها لكنه حتى فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة ضن بها على المعارضة واراد أن يسلبهم تلك الفتات الانتخابية مما أدى إلى هذا الانفجار، الآن يجب على اللاعبين فى الميدان السياسي أن يتعلموا أن الديمقراطية الحقيقية هى ان يختار الشعب وأن يفرحوا باختياره بل وينتصروا له وأن الدعاية الانتخابية لا تعنى على الإطلاق تشويه الآخر من أجل أن يفقد الأصوات التى قد يحصل عليها وأن الإقصاء ليس هو الحل للفوز بالأغلبية بل إن الإلتجاء لميثاق شرف سياسي يتم من خلاله ضبط العملية السياسية وتقنين الخروج على المبادئ الأخلاقية التى يجب أن تحكم العمل السياسي يصبح هو السبيل الأفضل لتنقية واقعنا السياسي ممن قد تسول له نفسه لاستغلال نفوذه وتحقيق منافع شخصية او ممارسة فساد أو إفساد فى هذا المجتمع، تماماً كما أن الحديث عن إصلاح القضاء لايعنى بالضرورة أن هناك فساد بالقضاء أو أن هناك قضاة فاسدين بل إن الحديث هنا يجب أن يصيب منظومة التقاضى وهى منظومة إدارية بالأساس ليس لها دخل بضمير القضاة وأنه كان يجب على الإعلام توخى الدقة فى الحديث عن إصلاح القضاء حتى لايمس مالايجب أن يمسه فى هذا الشأن، كذلك إن الحديث عن إصلاح جهاز الشرطة يجب أن ينصب أيضاً فى نفس الإتجاه على منظومة الإدارة والفكر الشرطى وأسلوب التعامل مع المواطنين، وأنا شخصياً لا اظن أن هذا الأمر يرفضه رجال الشرطة بل على العكس سوف يكون محموداً لديهم لأنهم فى أول الأمر وآخره مواطنين مصريين، يعملون من أجل هذا الوطن كما يعمل غيرهم ولديهم حياة ومتطلبات أسرية يسعون إلى الوفاء بها كغيرهم من موظفى الدولة. نفس الشيء ينطبق تماماً على أجهزة الحكم المحلى وغيرها من أجهزة الدولة.. أعلم جيداً أن هذا الحديث قد يبدوا طوباوياً ومثالياً لكننى أظن صادقاً انه لاخروج لهذا البلد من المازق الذى وضعته فيه ممارسات النظام السابق إلا بالتضامن ونبذ الخلافات وترسيخ مبدا سيادة القانون والمساواة بين المواطنين ، فالكل فى هذا البلد سواء ولكل دوره المرسوم بدقة والذى إن اختل اهتزت منظومة الأداء وتعطلت عجلة الإنتاج الذى يطالب الجميع بإدارتها دون أن يهيؤا المناخ لذلك. ورغم كل ماسبق لا أعلم لماذ فى هذه اللحظة بالذات أرغب فى ان تتوقف دعوات الإقصاء وأن يتم استبدالها بدعوات التكاتف من أجل القضاء على السلبيات والفساد، ربما لما حملته الأيام الماضية من توترات أقضت مضاجع المصريين وأقلقتهم على أمن هذا الوطن، ولكننى بلاشك لاأرغب على الإطلاق بل وأصر على ان تستمر دعوات ملاحقة الفاسدين، وأن يتم تفعيل القوانين وتنقيتها من المواد التى تم إدخالها لتسهيل الخروج عليها والهرب من براثنها. مصر الجديدة التى تسعى إلى أن تكون ديمقراطية يجب أن يتم بناؤها على اساس من حرية الرأى وصدقه وموضوعيته فى الوقت نفسه، لأن الرأى الذى يفتقر إلى الصدق والموضوعية هو رأى فاسد بالأساس ينبغى محاربته سواء بسواء مع فساد الذمم. مصر الجديدة يجب أن يتعلم فيها الناس أن النقد ليس معناه السباب وإلقاء الإتهامات جزافاً، بل إن النقد الحقيقى هو النقد الذى ينبنى على معلومات دقيقة وعلى لغة راقية تعين على إقامة حوار بناء من أجل تقدم هذا المجتمع. مصر الجديدة هى مصر الشابة التى تستعين بشبابها فى ميادين العمل والانتاج وتضعهم فى مواقع القيادة وتكرم شيوخها بعد أن أدوا واجبهم تجاه هذا البلد.. مصر الجديدة هى التى لايمكن أن يستثنى فيها أحد من القانون وتختفى منها المحسوبية والرشوة ويسود فيها العدل والمساواة. مصر الجديدة هى التى يجب ان يتكاتف فيها ابناؤها من أجل بناءها والدفاع عنها ضد أى تهديد داخلى كان ام خارجي. مصر الجديدة هى التى يجب ان تملؤها بسمة التفاؤل والأمل فى مستقبل زاهر جديد... المزيد من مقالات أحمد محمود