قياسا علي حقيقة نعيش واقعها الآن, وهي أن ثورة 25 يناير لم تكتمل مهامها بعد, ولم تتحقق جميع مطالبها, فإن ذلك يعني أن مسئولية صياغة رؤية متكاملة تنهض بمصر في الداخل, وتحقق لها صعودا بين الأمم الصاعدة في الخارج, تقع علي عاتق الحكومة القادمة والتي أصبحنا زمنيا علي مقربة منها, حين تجري الانتخابات وسيكون لدينا برلمان, وحكومة, ورئيس, خاصة أن الحكومة الحالية قد واجهتها معضلات يومية, خلفها وراءه النظام الذي سقط. والرؤية التي نريدها لابد أن تسبق منطقيا أي خطوات لبناء الدولة الحديثة, كما أن نظام الحكم القادم عليه مسئولية إكمال انجاز الإنسلاخ التام عن نظام سقط, كان يأخذ الدولة معه إلي مهاوي الركود والجمود والتراجع, وأن يتحرك النظام الجديد بفكر واستراتيجية عمل, تأخذ بيد مصر إلي عصر تبني فيه مصر الفتية المزدهرة, وهو ما كان الهدف الأسمي لثورة 25 يناير, وأن يخرج مصر من التشوش الفكري الذي خيم عليها بغمامة داكنة خلال الأشهر الماضية, تحجب الرؤية الكاشفة لأفق المستقبل. ولا خلاف علي أن تناطح الأفكار الذي أحدث تشوشا حادا بين عناصر الحراك السياسي, كان مثيرا للخوف علي الثورة, لكن ذلك يظل من منظور علم السياسة استنادا إلي التجارب التاريخية ظاهرة طبيعية عرفت باسم فوضي ما بعد الثورة, وهي ظاهرة سرعان ما تنحسر حين تشرع روح الثورة المتجددة, في الضبط الذاتي للخلل في مسارها, فما حدث يوم 25 يناير, إذا كان يعد من الناحية العملية والواقعية مبادرة من طليعة من الشباب, إلا أن روح الثورة كانت طاقة الجذب والحشد للملايين لتتحول مبادرة الشباب إلي ثورة مكتملة الأركان. وروح الثورة لا يصنعها تحريض من الداخل أو الخارج, لكنها استلهام من الخصائص التاريخية للشخصية القومية للمصريين. وهي خصائص متعددة رصدها علماء الإنسان والتاريخ, من بينها: الصبر الواعي, واختزان تراكمات الغضب علي نظام لاينال الرضا العام, وإعطاء ظهورهم له, بحيث ينعزل عن السياق العام للمجتمع. لا يستمد منه طاقة أو شرعية وجود, وفي لحظة ما, يندفع المصريون بالملايين في أرجاء المدن والقري لفرض إرادتهم عليه. وهو أمر مسجل في صفحات التاريخ, تشهد عليه أحداث في ا لتاريخ القديم, مرورا بانتفاضات متتالية ضد الحكام العثمانيين بدءا من عام 1586, وتجسدت في العصر الحديث في أبرز صورها في ثورة 19, والانتفاضة الجماهيرية في أنحاء مصر عام 1935, ولأن الكثير جدا من الأفكار التي ألقيت في مجري النهر الذي شقه شباب ثورة 25 يناير, قد بعدت بنفسها عن الخصائص القومية والتاريخية للمصريين, والتي حفظت لمصر أهم صفاتها: أولا التسامح, والتدين الفطري, وكراهية التطرف والعنف, لذلك فإن روح الثورة وهي منبع التغيير الذي جري, كفيلة بإعادة ضبط الأمور وتوازنها, والعودة بالثورة إلي أصلها وجوهرها. ولما كانت مهمة صياغة رؤية متكاملة تنهض بمصر, ستقع علي نظام الحكم القادم, فإن هناك دائرتين يفترض أن تشغلا الحكم الجديد من اللحظة الأولي. الدائرة الأولي أولوية وضع مشروع قومي للتقدم الاقتصادي, والنهضة الشاملة, بتكليف مجموعات من المختصين والخبراء وأهل العلم والمعرفة, بأن ينشئوا لجانا تتوزع علي مناقشة موضوعات, ثم يتم إجمال هذه الموضوعات في خطة كاملة للمشروع القومي. ان مشاكل مصر لن تحل باجراءات مجزأة لهذه المشكلة أو تلك, لكن بتحرك حضاري شامل يدفع بدماء الحياة إلي جميع شرايين الدولة والمجتمع. قد يكون مثل هذا المشروع طويل الأجل, ويمكن أن تسير في محاذاته مشروعات قصيرة الأجل. وعلي سبيل المثال فإن تنمية سيناء تمثل ركنا مهما من أركان المشروع القومي, وتتمتع بوجود بنية تحتية كانت قد شيدت عند إقرار المشروع القومي لتنمية سيناء عام 1994, والذي تم إيقافه بعد سنتين فقط من بدئه. ولاتزال هناك دراسات مكتملة, وبدايات منتجة لمشاريع زراعية وصناعية وعمرانية, يمكن إعادة إحيائها في الحال, توفر فرص عمل واسكان وتوطين لملايين المصريين, وتسد احتياجاتنا من السلع المنتجة, خاصة اننا نستورد 75% من احتياجاتنا من المواد الغذائية. الدائرة الثانية هي سرعة بلورة رؤية نهائية من قضايا السياسة الخارجية. وهو ما يستلزم البدء فورا في ترتيبات قيام مجلس أمن قومي. وفي هذا الإطار يتم رسم خطط متكاملة لمد جسور التعاون والتعامل في افريقيا, وخاصة مع دول حوض النيل, وأن تكون هناك مواقف قاطعة من القضايا العربية والدولية تعكس روح مصر الثورة, وتتفادي ما جري من تأخر اعلان موقف مناصر لشعب سوريا في مواجهة المذابح التي ترتكب ضده. ان اكتمال رؤية مصرية للسياسة الخارجية, صار مطلبا ملحا, ونحن نري دول العالم وخاصة القوي الكبري وعلي رأسها الولاياتالمتحدة قد شغلت بوضع صياغات لكيفية التعامل مع مصر بعد الثورة, وما لوحظ من مناقشاتهم تطرقت إلي معني أن الصورة شبه النهائية التي تكونت لديهم للنظام الدولي الجديد, وقواعد التعامل معه, والقوي الصاعدة المرشحة للمشاركة في إدارته, ويمكن أن تكون قابلة للتعديل نتيجة لثورات مصر, والمنطقة العربية. وان ذلك قد يدفعها لإعادة حساباتها تجاه المنطقة العربية التي تكونت لديها طوال عشرات السنين نظرة ثابتة, تري انها منطقة ساكنة, وانها خارج حسابات ادارة النظام الدولي. ذلك كله لابد أن تحتويه رؤية لمصر التي نريدها وهي مسئولية يلزم ان يكون علي قدر تحملها, ونحن في انتظار انتخابهم البرلمان والحكومة والرئيس. المزيد من مقالات عاطف الغمري