كتب - د. عبدالهادي القصبي - شيخ مشايخ الطرق الصوفية : تميز الصوفية طوال تاريخهم بأخلاقيات انفردوا بها عن غيرهم وخصوا أنفسهم بها دون سواهم, بجانب الاخلاقيات الاسلامية العامة التي ينبغي أن يتحلي بها كل مسلم انطلاقا من حديث النبي صلي الله عليه وسلم إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ولذلك عرف الصوفي بالأخلاق, ومن زادك في الخلق والصفاء زادك في التصوف. والتصوف في مفهومه الصحيح كما بينه أئمته منهج سلوكي تربوي قائم علي كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم, وبه تتم مكارم الأخلاق ويتم كمال الأدب, وبه تدرك الفتوحات الربانية والأنوار المحمدية. وللتصوف الاسلامي تعريفات كثيرة كلها ترجع الي معني واحد هو الاحسان والخلق والتقوي وطلب الكمال, وفي هذا المعني يقول الإمام الغزالي, إني علمت يقينا أن الصوفيةهم السالكون لطريق الله خاصة, وأن مسيرتهم أحسن السير. وطريقهم أصوب الطرق, وأخلاقهم أزكي الأخلاق. ويرجع الكثير من الباحثين أصل تسمية التصوف فيقولون سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها ونقاء آثارها وهم في هذا يردون التسمية إلي الصفاء. وسئل الجنيد بن محمد البغدادي عن التصوف فقال اسم جامع لعشرة معان. الأول: التقلل من كل شئ من الدنيا عن التكاثر فيها. الثاني: اعتماد القلب علي الله من السكون إلي الأسباب. الثالث: الرغبة في الطاعات من التطوع في وجود العوافي. الرابع: الصبر علي فقد الدنيا عن الخروج إلي المسألة والشكوي. الخامس: التمييز في الأخذعند وجود الشئ. السابع: الشغل بالله عز وجل عن سائر الأشياء. الثامن: تحقيق الإخلاص في دخول الوسوسة. التاسع: اليقين في دخول الشك. العاشر: السكون إلي الله من الاضطراب والوحشة. فإذا استجمع هذه الخصال أي الصوفي استحق بها الاسم وإلا فهو كاذب. ويسرد الذين كتبوا في التصوف الكثير من أخلاق الصوفية مثل التواضع. والإيثار والمواساة ويحملهم علي ذلك فرط الشفقة والرحمة وقوة اليقين وفي هذا المعني نزلت الآية ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ومن أخلاقهم التجاوز والعفو ومقابلة السيئة بالحسنة, وقد روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه واله وسلم أنه قال: رأيت قصورا مشرفة علي الجنة فقلت يا جبريل لمن هذه؟ قال للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. ومن أخلاقهم البشر وطلاقة الوجه, فالصوفي بكاؤه في خلوته وطلاقة وجهه مع الناس, وقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقي أخاك بوجه طلق. ومن أخلاقهم التودد والتآلف والموافقة مع الإخوان وترك المخالفة قال عليه الصلاة والسلام. المؤمن يألف ويؤلف,ولا خير فيمن لا يألف ولايؤلف. ومن أخلاقهم رضي الله عنهم غيرتهم لله تعالي: إذا انتهكت حرماته نصرة للشريعة المطهرة فكانوا لا يفعلون فعلا يحبون أحدا ولا يبغضونه لعلة دنيوية. ولذلك كان علماء السلف يدعون الناس إلي مرافقة الصوفية ومصاحبتهم حتي يتعلموا منهم ويتخلقوا بأخلاقهم, وفي ذلك ورد أن رجلا قال لسهل بن عبدالله التستري المتوفي عام272 ه, رحمة الله: من أصبحت من طوائف الناس؟ فقال عليك بالصوفية, فإنهم لا يستكبرون ولا يستكثرون. ويقول الدكتور عبد الحليم محمود موضحا أهمية الأخلاق الصوفية في عصرنا الحاضر. في هذا العصر الذي أخذت فيه الأرض زخرفها من العناصر المادية وقامت فيه الحضارة الأوروبية علي المنهج الحسي المادي ولا تكاد تعترف بغيره من المناهج, مازال في البيئات الإسلامية, والحمد لله, طوائف من أصحاب الفطر السليمة الذين يرجون للبشرية مستقبلا يضرب بأسهم وافرة في عالم الخير والحق, عالم الدين والروح, عالم الإخاء والإيثار وهذا العالم الذي تنبع أصوله من وحي السماء, والذي يسير أفرادا, أو جماعات هادفا إلي تحقيق المنهج الإلهي والمبادئ الإلهية, يمثله كنماذج أضوأما تكون النماذج أئمة التصوف, وأعلام الصوفية, إنهم يمثلونه في المنهج الذي اتبعوه, ويمثلونه كحقائق واقعية في المبادئ والقواعد, إن حياتهم منهجا وموضوعا تترسم التربية الإلهية, وهدي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم, فيما هو سهل يسير, وهم يحاولون ما أمكن أن يكونوا بقدر الاستطاعة ورثة الأنبياء علما وورثة الأنبياء سلوكا وورثة الأنبياء أحوالا ومقامات.