لا أنكر أن جزءا أصيلا مني فيه اغتراب, فقد عشت في باريس نحو ثمانية عشر عاما شغلت فيها لعدة سنوات منصب رئيس المالية المصرية في باريس.. كما أنني مهموم في جانب من اهتماماتي الثقافية بالريادة المصرية, فلقد عشت مع كثيرين غيري عصرا كان فيه عميد للأدب العربي في مصر, كذلك عملاق الأدب العربي الذي لم يحصل علي شهادات عليا, ولم يتخلف المسرح العربي عن هاتين الخصلتين فكان توفيق الحكيم عميدا للمسرح العربي. لكن عندما زرت باريس أخيرا وأمضيت فيها نحو ثمانية عشر يوما لم أجد مصر أرض الكنانة بين المغتربين الذين صادفتهم وحرصت في نفس الوقت علي لقاء بعضهم, وقلت في نفسي: لقد تركت مصر والحديث فيها مشتعل عن الريادة المصرية الي حد أن البعض من غلاة الريادة يعتبرون ان الثورة المصرية هي الأصل وكأن الثورة في تونس لم تحدث وكأن الشاب بوعزيزي لم يحرق نفسه.. ثم هبطت الي باريس فإذا المغتربون في شغل عن هذه الدعاوي. لا أكتمكم القول إنني ظللت أبحث عن الريادة المصرية في باريس فلم أجد فترك ذلك في نفسي قنوطا مابعد منه قنوط. ذهبت الي معهدالعالم العربي الذي هز العالم أجمع بمعماره, وأخذت أبحث عن المصريين فلم أجدهم.. أقول الحق لقد صادقت مشارقة من لبنان ومغاربة من دول المغرب العربي بل صادقت أناسا من موريتانيا في أرجاء المعهد المختلفة لكنني لم أجد من بلد طه حسين أحدا.. كان في الزمن القديم هناك شخص واحد يعمل حارسا يدعي مصطفي لكن بعد أن مات لا يوجد مصري واحد.. كذلك ناصر الانصاري الذي كان يشغل مدير لمعهد لا يوجد مصري اخر ليحل محله وكأن مصر الريادة قد أعقمت, حدثني أحد الفرنسيين المهتمين بالشرق قال: ما اندهش له أن بلد عميد الأدب العربي والأزهر الشريف لا يوجد منها شخص واحد علي الرغم من كثرة الموظفين في المعهد وكلهم من أي بلد عربي إلا مصر!! تركت المعهد وقلبي حزين فإذا به يصبح ؟ عندما زرت البنتاجون.. واكتشفت أن مكتبه اسلامية في القانون الاسلامي في شارع كيجاص كان يديرها شخص مصري يدعي الدكتور الشقنقيري.. لكن ما أن مات هذا الرجل إلا وتم اسناد المنصب لشخص لبناني.. ثم أصبح المنصب من أرث اللبنانيين.. لا المصريين باختصار لا وجود لأي مصري هناك.. وكذلك الجامعة قد خلت من الاساتذة المصريين رغم كثرتهم في مصر.. بينما غصت جامعات باريس الأربع عشرة بالاساتذة اللبنانيين, وهذه مأساة أخري يشهد بها طلاب الجامعات الذين ذهبوا ليجدوا أن أساتذتهم من المشرق ولا وجود لأي أستاذ من مصر. أقول الحق لقد امتلأت نفسي بالمرارة لكنني لم أسلم نفسي للحزن وانتهزت فرصة أن هبط علينا شهر رمضان المبارك, وذهبت الي الأحياء التي تكتظف فيها الكثافة العربية والاسلامية وخالطت أهلها بل وزرت المكتبات الاسلامية وهالني أن هذه المكتبات لم تجد مؤلفين أو دعاة في الاسلاميات غير الشيخ يوسف القرضاوي والداعية عمرو خالد, أما بقية المؤلفين والدعاة فهم من المشرق والمغرب العربي.. وأشهد أنني ظللت أبحث عن رجال دين مصريين, فلم أجد رجعت إلي بيتي وامتدت يدي إلي التلفاز فإذا بمقدمته فنانة من لبنان غيرت القناة لأجد في الفضائية الأخري سيدة من المغرب العربي وأخذت اتنقل كالمجنون بين القنوات المختلفة باحثا عن مصر والمصريين فلم أجد فأغلقت التلفاز لأبحث عن مصر في المذياع لكن للأسف لم أجد أ ي شيء يذكرنا بمصر.. فالمؤذن عربي, والشيخ مغربي, والمفتي كذلك من المشرق العربي.. وظللت مغيبا عن مصر. أو مصر هي الغائبة عني لا فرق! المهم أنني شعرت لأول مرة بالوحدة في شهر رمضان الكريم. في المساء طويت أحزاني في صدري, وأخذت اسأل نفسي أين الريادة المصرية التي أشبعونا حديثا عنها؟! وجلست بين مجموعة من المغتربين وتطرق الحديث عن أبناء الجيل الثاني والثالث من المصريين المغتربين فحدثوني بأن مصر غائبة تماما عن هذين الجيلين, وإذا أردنا أن نبعث بهم إلي مدرسة تعلم اللغة العربية والدين الإسلامي لم نجد سوي مدرستين الأولي المدرسة الليبية والثانية هي المدرسة السعودية ولاغضاضة في هاتين المدرستين, لكن أين المدرسة المصرية؟ ويقول أب مغترب مصري إنه ذهب وأخذ يتقرب لمدير إحدي المدرستين كي يقبل ولديه! والسؤال الآن هو التالي: لماذا غابت مصر في هذا الميدان, وهل لم تعد في حاجة إلي أبناء الجيلين الثاني والثالث.. واعترف كان الحديث مع هذه المجموعة من المصريين له رائحة الغموض والأمل في ثورة الشباب بحيث لا ينغلق المصريون في الداخل عن قضايا الخارج باعتبار أن الخارج امتداد للداخل! ولقد تعمقت أكثر في حياة المغتربين فاكتشفت أن الثورة ثورة 25 يناير قد بدت علي سلوكياتهم فهم يقولون إن نظرة الفرنسي القح قد تغيرت وأخذ ينظر إلي أبناء الجالية المصرية, وعددها نحو 300 ألف شخص, باحترام وتقديس باعتبار أن أفراد هذه الجالية ليسوا إلا شبابا مثل الذين فجروا الثورة. لكن ماملأ النفس يأسا وقنوطا أن المرشحين المحتملين للرئاسة قد زاروا باريس.. وكان من نتيجة ذلك أن أنقسم المصريون المغتربون حولهم, كما هو الحال في مصر, المؤسف أن أحدهم قد قذف الفريق الثاني بالطوب وتسبب في نشوب معركة.. وعندما سألت عن السفارة والقنصلية المصريتين اكتشفت أنهما سببا من أسباب الفرقة لأنهم يدعمون طرفا ضد آخر. وعلمت أن البوليس الفرنسي قد ترك الحبل علي الغارب وقال في نفسه: إنهم مصريون مع وبعضهم البعض!! وأرجع هذا الاختلاف إلي ضعف الثقافة الخاصة بالمشاركة السياسية وفي ظني أن الاختلاف ثقافة لانعرف أصولها.. فهذا يؤيد فريقا وذاك يؤيد آخر.. لكن علي كل شخص أن يحترم إرادة الآخر. تركت الجميع وحزمت أمتعتي لأعود إلي مصر التي لم تكف عن حديث الريادة بل وجدت من يصر علي أن مصر تتقدم الصفوف في كل شيء الذي أجزنني ولابد أن اعترف بذلك أن حالة الانفلات التي تعيشها في الداخل قد زادت فلا حديث إلا عن المرشحين المحتملين, والمجلس العسكري, ومبادئ الدستور والانتخابات والإشراف القضائي.. باختصار لا حديث إلا عن قضايا الداخل أما الخارج فلا وجود له وغاب عن بال الكثيرين أن مصر خلقت لتكون عملاقا وليس قزما بين الدول, ثم إن المغتربين يشعرون أن أحدا لم يهتم بهم وأن المرشحين المجتمعين للرئاسة قد هبطوا عليهم مع أناس غير مرغوب فيهم للسطو علي أصواتهم لكن أحدا لم يفكر في قضاياهم الاغترابية ولا مشكلات أبنائهم وهي كثيرة والمعيار من وجهة نظرهم هو الانشغال بهم لا الضحك عليهم. باختصار.. المغتربون يريدون من كل قلوبهم أن تعود الريادة المصرية وأن تتقدم بلادهم العزيزة لكن ليس علي حسابهم أو حساب مصالحهم أما تصغير مصر والانكفاء علي الذات فهذه إجراءات لم تخلق لمصر. المزيد من مقالات د. سعيد اللاوندي