أخذني لغرفته. قال أن الحذر واجب. الحيطان لها آذان. والأسقف لها أعين.والشوارع لها ألسنة. قبل سؤاله عن المرحوم طلب مني ألا أصدق اسمه المدون في أوراقه. سألته. لماذا؟! قال لي: إنه كان متخفيا. ألم تعرفه؟! إنه يحيي المشد. قلت له لقد استشهد وشبع استشهادا في باريس. قال لي: القتيل كان حارسه. أما هو فقد نجح في الهروب وعاد لبغداد. وسلم صدام حسين يدا بيد أول قنبلة نووية عربية. ثم بدأ رحلة التخفي في مصر. كان شديد الإعجاب بجمال حمدان. وقبل أن أقاطعه قائلا إنه مات أيضا. قال إنه كان يتخذه مثله الأعلي في التخفي والوحدة. واعتزال الناس. تقافز علي شفتي سؤال خجلت من طرحه عليه. هل يعرف القراءة والكتاب؟ ولكني سألت: هل سمع منه ما قاله لي؟! قال لي: ليس مسموحا له بالكلام أكثر من هذا. صاحب حقل مجاور للمحجر. هو الذي طلب الكلام معي. قال لي إن الأستاذ كان يعمل خارج مصر لتأمينها. وأن رأسه كان مطلوبا لجهة كانت تعادي البلاد. وأن مطلوب منه التخفي. وأن يمشي جنب الحيط. حتي لا يتم خطفه ونقله لخارج مصر. وقتله. قلت لنفسي يبدو أن الأستاذ كان يعاني من خفة في العقل. لذلك اقترب كثيرا من المهاويس. قالوا لي عند محطة الميكروباص أن الأستاذ لم يجلس علي مقهي. ولم يتناول طعامه في مطعم. ولم تكن له أي صلات مع سائقي الميكروباص الذين يحضر وينصرف معهم. كان يرفض ركوب سيارات النقل التي يتعامل سائقوها مع المحجر. أكدوا أنه كان يقطع المسافة من الموقف للمحجر علي قدميه وبمفرده. عندما كان يحب أن يتكلم كان يكلم نفسه. سألت عن حكاية النساء. دهشوا. قلت: زوجة, مطلقة, شقيقة أو ابنة؟ قيل لي: أرح نفسك. لا نساء في حياته, قلت في سري: ألا يعد هذا عيبا؟ خاصة في مجتمعاتنا؟ مشكلة؟! كلما توهمت أنني تقدمت في القضية تعثرت أكثر. وكان علي البدء من أول وجديد. وصلت الأمور لحدود العمل ضد أعداء مصر خارجها. باب جديد. واسع ومترامي الأطراف. ولكن من أدراني أنه باب حقيقي. ربما كانت شائعات. مجتمع يطفو فوق الشائعات. قد تكون أكاذيب. من يصنعون الأكاذيب ويطلقونها. يصبحون بعد فترة من الوقت أول من يصدقها. الوقوع في غواية الشائعة. يجعل صانعها. هو نفسه ضحيتها. عدت من المحجر. وأنا أحاول تذكر حكايات ألف ليلة وليلة التي كنا نسمعها من الإذاعة في شهر رمضان. الحكاية مثل السرداب. كل حكاية تسلمك للأخري. غواية الموضوع التي أمسكت بقلبي. دفعتني لإعادة معاينة الشقة. للتأكد من نتائج المعاينة الأولي. ومعرفة إن كان هناك أي جديد طرأ علي الشقة. لو كان في الأمر مجرم. قد يعود أو يحوم حول المكان. قال لي البواب أنه لم يلفت نظره أي أمر غريب. سألت البواب: ألم يحضر أحد للسؤال عن المرحوم؟ رد علي سؤالي بسؤال: وهل كان يحضر أحد في حياته حتي يحضر بعد رحيله؟! بحثت من جديد في أوراقه. بعد أن برمجت نفسي علي شم رائحة ما هو جنائي أو سياسي. وجدت خطابا مرسلا من شقيق له. عرفت هذا من اسم المرسل. كان يحتفظ بالرسالة والمظروف الخارجي. مرسل من خارج البلاد. قبل الدخول في دائرة محاسبة نفسي. كيف فات علي هذا الدليل المهم في المعاينة الأولي؟ قلت أمامي وقت حتي تفك هيئة البريد طلاسم الأختام التي لا تشفي غليلي. قد يزيد الغموض غموضا. عدت إلي سجلاتنا مرة أخري. لم يكن المتوفي من المسجلين عندنا. رغم تنوع السجلات. سياسة مخدرات. دعارة. تطرف إرهاب. محاضر اشتباه. عدت من الرحلتين كما ذهبت. أرسلت مظروف البريد لهيئة البريد. في انتظار ما يقولونه. أشار علي زميلي. برفع البصمات عنه أولا. وقد امتثلت ولا أمل لي. كل هذا كنت أقوم به علاوة علي عملي. الذي كنت أؤديه بشكل روتيني. القتيل المجهول أصبح يشكل تحديا لي. راهنت نفسي علي نفسي. ما كان أسهل من نفض يدي من الأمر. مذكرة تعرض علي النيابة. بقيد الحادثة ضد مجهول. وتنتهي الحكاية. تمنيت لو استطعت نسيان الأمر. والتعامل معه كأنه لم يكن. وهل أقدر علي ذلك؟ ليتني أستطيع. أخرجت الكارت الأخير. استبقيته حتي اللحظة ما بعد الأخيرة. (5) سربت خبرا عن مقتله. وكنت قد تكتمت الأمر في البداية. حتي لا تشاركني الصحافة البحث عن القاتل. والنبش في حياة القتيل. والبحث عن توابل الفضائح. والتجول في شوارع حياته الخلفية. وهذه التصرفات وبعضها أرعن وغير مسئول قد يضر بالتحقيق ألا تقول أم كلثوم في غنائها: ومن السموم الناقعات دواء. وأقول أنا أن الضرورات تبيح المكروهات. نشرت خبرا بارزا. معه صورة للقتيل. الصورة المثبتة في بطاقته. عن وفاته وليس عن مقتله. كان رجائي. أن يكون بروازا يراه الأعمي. ويسمع رنينه من به صمم. مكانه الطبيعي صفحة الوفيات. لكنه لم يكن نعيا. ولكن علي شكل خبر لإعفائي من دفع الرسوم. كنت قد طلبت من صديقي الصحفي المسئول نشره في صفحة الحوادث. فوجئت به يخبرني أن صفحة الوفيات هي الأولي في القراءة. لأنها الأدق والأصدق. تستعصي علي الزيف. فيها يتساوي الجميع. أقصد جميع القادرين علي دفع الرسوم المرتفعة. اتفقنا أن يكون الخبر جزءا من صفحة الوفيات. كان الخبر المثير اللافت للنظر آخر ما أملكه من إمكانيات. إما أن أصل إلي ما أريد. وهل أعرف أنا ما الذي أريده؟! لو كنت أعرف ما كان هذا حالي. أو أنفض يدي من الحكاية كلها. طلبت من صديقي الصحفي المسئول أن يكون النشر في الطبعات المصرية والعربية والدولية من الجريدة. ليقرأه الجميع. لو كان الأمر بيدي لكان الخبر في الصفحة الأولي. رغم أن القتيل ليست له أهمية تبرر نشر خبره في الصفحتين الأولي ولا الأخيرة. بعد عشرة أيام من النشر اتصل بي الصحفي. ليخبرني أن الرجل ظهر له أهل. وذلك بعد ديباجة طويلة ومملة عن صاحبة الجلالة وقدرتها علي حل الامور المعقدة التي تعجز الشرطة عن الوصول لحلول لها. صدقته علي كلامه وكدت أن أزيد عليه. وعندما استرسل في سرد ما يفعلونه. طلبت منه البدء من النهاية. أن يقول المفيد لأن خطبته العصماء عن الصحافة وإنجازاتها تؤكد ما حفظناه منذ طفولتنا وحتي كهولتنا. فصاحبة الجلالة علي العين والراس. وبدونها لا قدر الله ولا كان ما استطعنا إنجاز شيء. قال لي الصحفي المسئول بعد طلوع روحي أن شخصا اتصل به من الخارج. هكذا قال له عامل التليفون في الجريدة الكبري. وأبلغه أنه شقيق المتوفي. وأنه الوريث الوحيد له في العالم. وسيحضر بعد عشرة أيام لتصفية الأمور. طلبت من الصحفي أن يعيد علي مسامعي ما سمعه من الرجل الغريب. وتحديد من أي مكان في العالم كان يتكلم. قال لي.. إن عامل السويتش متأكد أنه ترنك خارجي. يبدو أننا أخطأنا لأننا لم ندون مع الخبر أرقاما خاصة للاتصال. ولكن لو فعلنا هذا لبدا الأمر كأنه موجه. ولفقد عفويته. قال لي الصحفي. أنه يشعر بالأمان لأنه يتكلم مع ضابط مباحث. ابتسمت بسخرية فهو لا يراني. قال أن الدور الخامس في هيئة التليفونات بشارع رمسيس الملكة نازلي سابقا انفجرت مرارتي من القفز من موضوع لموضوع. لو سألوني بعد الإحالة للمعاش إن أعرف الصحفي. لقلت إنه الإنسان المتقافز من فكرة لأخري ومن يقول إذا تكلم ولا يقول. قال لي أن هذا الدور الأسود. يسجل جميع مكالمات المصريين مع الخارج. وهذا إرث من آثار عهود سابقة. ويمكن تتبع المكالمة ومعرفة مصدرها. ما دمنا نعرف الثانية من الدقيقة من الساعة التي جرت فيها المكالمة. سألته ألم يستفهم الرجل عن ظروف الوفاة؟ قال لي: ولا حتي الجنازة ولا العزاء. أكد لي الصحفي أنه يخيل له أن الرجل كان يتكلم من تليفون في الشارع. ربما وضع فيه قطعة عملة. لأنه قطع كلامه. وإحدي الكلمات وليست الجمل كانت في منتصفها. صرخت في الصحفي. لماذا سيحضر بعد عشرة أيام؟! يا برودة أعصابه. وهدوء قلبه. لماذا لم يحضر في الحال؟! ليكن الميراث سبب اهتمامه ربما الوحيد بالأمر. ولكن لماذا تأخر كل هذه الأيام؟ أمام مكتبي سبورة قديمة خضراء اللون. مهجورة. لم أستخدمها منذ يومي الأول في المكتب. ولم أكن أتصور فائدة لها. ومنعني خجلي من رفعها من المكان. ربما كانت لها استخدامات لا أعرفها. أحضرت طباشير. ودونت الأيام الباقية علي حضوره. وكلما مر يوم. محوته وقمت بعد الأيام المتبقية. تعبت من تباطؤ الأيام وطول الليالي. كل هذا كان يجري والعساكر والأمناء والمخبرون ينظرون لي. لابد أنهم يضربون كفا بكف من وراء ظهري. قد يقولون إنني علي مشارف الجنون. ما كان يفزعني. تراجع الجثة وقبر الصدقة المدفونة فيه من خيالي. ليتقدم شقيقه المتغرب. ويحتل شاشة تفكيري. لم أكن أعرف شكله. رسمت له صورة قريبة من أخيه. لابد من وجود أمور مشتركة بينهما. نراها عندما نقابل الأشقاء. (6) رتبت أموري مع الصحفي. دليلي الوحيد لهذا القادم من الخارج. وطريقي إليه. لم أترك ثغرة واحدة في الترتيبات. إن إتصل به من الخارج لابد من معرفة مكانه حتي لو كان من تليفون بالشارع. وعند وصوله لمصر لابد من معرفة المكان الذي ستهبط فيه طائرته. حتي لو كان أسوان أو مهبط الطائرات الخاصة بمطار القاهرة. أو الميناء البحري. إن أتي بسفينة. أو البري. إن جاء بسيارة. ورغم الترتيبات التي بدت. كما لو كانت استعدادا ليوم القيامة. أو استقبال أو وداع أو مرور رئيس الجمهورية ذات نفسه. فقد وصل الشقيق مع الصحفي لمكتبي ذات صباح. دون أي تنبيهات أو إشارات مسبقة, ألم يقولوا في أمثالنا الشعبية: وقوع البلا ولا انتظاره. كنت مشغولا لشوشتي في عمل كل يوم. عندما دخل الصحفي أولا. كان في مكتبي بعض الضيوف. وبعض المخبرين الذين يقدمون تقاريرهم اليومية عن سير العمل. عندما همس الصحفي في أذني: الرجل بالخارج. وقبل أن يبدأ الحكاية من أولها. ويقول أن الرجل فاجأه بالحضور في الجريدة. صحت فيه: وكيف تركته بمفرده؟ وكيف حضرتما من الجريدة بدون حراسة؟ تكلمت وأنا أقفز نحو الباب. بخطوة واحدة أصبحت في الطرقة. زحام كالعادة من خلق الله أمام مكتبي. سألت نفسي بمرارة: كيف وصل كل هؤلاء الناس لباب مكتبي؟! يبدو أنني تغافلت عن كثير من مظاهر الأبهة والعظمة التي تميزني عما عداي في المكان. أخذتني الجثة التي وقعت في هواها ولم أعد لمكاني مرة أخري. اتجهت بفراستي إلي رجل أسمر. تصورت أنه قريب الشبه بالقتيل. مددت له يدي مصافحا ومرحبا. ولكن الصحفي لفت نظري لشخص آخر. أبعد إنسان علي الأرض عن القتيل من حيث الملامح. وجهه كأنه قطعة من البياض المشوب بحمرة قانية. شعر رأسه وشاربه وحاجبيه. قطن مندوف. مع أن الكل أجمع علي أن القتيل أسمر وطويل. والذي أمامي قصير. القتيل قوامه مثل عود السرو. وهذا كتلة من اللحم الأبيض. والقتيل شعره مسبسب. يمكن أن يسرحه بأصابع يديه. وهذا قطنه الأبيض الذي يغطي فروة رأسه. كما لو كان باروكة ألصقت برأسه. الأهالي أكدوا علي أناقة القتيل ومن يقف أمامي يرتدي كرنفال ملابس متنافرة. تذكرت ما سمعته من أمي. من أن البطن قلابة. وأنه سبحانه وتعالي يخلق من الشبه أربعين. شكل شكي فيه إحساسي الأول نحوه. دعوته إلي مكتبي. أنهيت طلبات كل من كانوا عندي في ثوان. أصبحت معه هو والصحفي. فكرت في طريقة أتخلص بها من الصحفي. قام بالمطلوب منه. والآن علي أن أقول له: كفي. إن بقي معنا. ودس أنفه في الموضوع. قد يفسد لي طبختي. ومع هذا لا أستطيع أن أطلب منه مغادرة المكتب. استأذنت منهما وخرجت. تججب بالذهاب لدورة المياه. دعا لي الصحفي بالترقية. ليلحق بمكتبي دورة مياه خاصة. تذكرت أنني نسيت مفتاح الدورة المخصصة لي. ولا يدخلها أحد سواي. وهذا يجعل الصحفي يشك فيما قلته. عدت وأخذته. طلبت من زميل لي أن يدخل مكتبي. ويصافح الصحفي ويتصنع الدهشة كأنه رآه صدفة. ويعامله بود زائد عن الحدود. ثم يصر علي عزومته علي قهوة في مكتبه. ليخلو لي الجو مع شقيق القتيل. أخيرا, أخيرا. أصبحت بمفردي معه. نظرت له من جديد. محال أن يكون شقيق صديقي القتيل. بشكل مهذب وبدون استثارة ردود أفعال عنده. طلبت منه تحقيق شخصيته. قدم لي جواز سفره. قال لي إن بطاقته لم يعد لها وجود. من طول سنوات غربته بعيدا عن البلاد. كانت البيانات دقيقة. المقتول شقيقه. قال لي وأنا أقارن البيانات. إن المتوفي كان بمثابة والده. أكثر من كونه شقيقا أكبر. تكلم بحياد كأنه يتكلم عن حكاية لا تخصه. لم يبد أي تأثر علي وجهه. حمدت له أنه لم يحاول أن يتصنع التأثر الذي لم يكن له وجود. كنا نتكلم لغتين مختلفتين. أريد مناقشته في ظروف الوفاة. وهو يسألني عن أمور لا أعرفها. شقة المرحوم في الاسكندرية. وقطعة الأرض في السادس من أكتوبر. وأسهم في البورصة. وودائع البنوك. والجمعيات التي دخلها سواء في المنزل أو العمل. عندما سألته عن العمل الذي كان يقوم به شقيقه. قال لي: وهل يحتاج ذلك لسؤال؟ كان يسجل مواليد القطر. يكتب في سجلات معه, اسم المولود. وساعة ميلاده واسم والده واسم أمه. وكان يحتفظ بالسجلات معه لاتفارقه لا في نومه أو يقظته. سألته عن مصير السجلات. تعد ثروة نادرة. ما دام لا تعنيه سوي الثروات. قال الرجل إنه أخطأ. عقله ليس دفترا. كان السجل عبارة عن تسجيل دقيق لوفيات زمانه. والمشاهير والعامة من الناس. الأسماء مرتبة حسب يوم وقوع الوفاة. وفي مرة ثالثة. زعم أن شقيقه كان مسئولا عن مقياس النيل. فشككت في عقله. وسألت نفسي: أليس من المحتمل أن تكون عائلة من المجانين؟ لم يكن في يد شقيق صاحبي القتيل خاتم زواج, وكان يعلق حقيبة صغيرة في كتفه الايسر. ليسهل له التعامل معها. بإخراج ما فيها. أو إعادة ما أخرجه منها إليها بيده اليمني. سألت نفسي: أعزب آخر. أعزبان إذن. آخر من في العائلة. كيف هذا؟ قلت لنفسي, دون أن يسمعني: عائلة منقرضة. آضطررت لوقف هذيانه المالي. تبخر البريق الذي كان يسيل من عينيه أنصت لي مكرها. كلمته عن الجريمة. سألني: أي جريمة؟! قلت: جريمة قتل شقيقك؟! لم يعلق. أكملت: أو من تدعي أنه شقيقك. سألته عن أعدائه وخصومه. كان ما أعرفه عن شقيقه أكثر من الذي يعرفه هو. لم يره منذ سنوات. لا يعرف عنه غير عنوانه وما يمتلكه. قلت له: تقصد ما كان يمتلكه. كاد قلبه أن يتوقف عند سماعه العبارة. عرفت ذلك لأن يده اليسري امتدت وتحسست مكان القلب في صدره. سألني: هل كان القتل بدافع السرقة؟ لم أجب تساءل بينه وبين نفسه: هل بدد ما كان يمتلكه قبل قتله؟ (7) بدا لي الكلام في حاجة لعملية تنظيم. بدأت الكلام معه من أكثر النقاط إثارة لشكوكي. الكوب الثاني والفنجان الثاني. والمعلقة الثانية ما حكايتهم؟ من هي صاحبة كل ما هو ثان في حياة شقيقه؟ حاول مساومتي, سيفك لي لغز ثنائية الاشياء. وأسلمه موجودات شقيقه. كما عثرت عليها في شقته. لو أقسمت له أنني لم أجد ما يبحث عنه. لن يصدقني. وسيتوقف عن التعاون معي الأفضل ترك الأبواب مواربة أمامه. والرد بكلمات لايفهم منها أي شئ. مثل: ربنا يسهل. ربك موجود. اللي يمشي سليم يحتار عدوه فيه. تساءل: إذن هناك أمل؟! قلت كلمة واحدة: لابد استراح في جلسة. ابتسم لأول مرة بهدوء منذ أن رأيته. بأن الهدوء علي وجهه. وبعيدا عن التوتر الذي عطي وجهه منذ أن التقينا. قال لي: شغلت نفسك كل هذا الوقت بقضية ما كانت تستحق كل هذا الاهتمام. سألته: كيف؟ قال لي: هل نسيت أن شقيقي الأكبر فرداني؟ قلت له: وكيف أنسي؟ عاد يقول: لقد عاش حياته وحدانيا بكل ماتعنيه الكلمة. كان يتجول بين الكلمات يبصق مفردات الحديث ولايعنيه الانتهاء منه. أو ربما كان في انتظار معرفة تركه المرحوم. كنت مصرا علي القتيل وكان لديه نفس الإصرار علي المرحوم. كان من عادة المرحوم أن يضع أمامه فنجانين وكوبين ومعلقتين. عندما يشرب الشاي أو القهوة. وعندما كان يتناول طعامه. كان يضع طبقين من كل صنف. ويعزم علي ضيف وهمي لا وجود له. ويتقاسم معه الطعام والشراب. ومع مرور الوقت كان الطعام الاخر يؤكل وهو يعتقد أن الملائكة أو الشياطين حسب ما يفعله في اليوم إن كان حسنا تكون ملائكة. وأن كان سيئا يحسبها شياطين. الملائكة أو الشياطين التي كانت تسكن معه في فراغ الشقة تأكل معه, كان المرحوم يعول أسرة كبيرة هو البني أدم الوحيد فيها والباقون كانوا من الشياطين والملائكة. لم أصدق ما سمعته. هالني ما يقوله القادم من الخارج سألته إن كان متأكدا مما يقوله. قال لي أنني لو بدأت المعاينة بأدوات مطبخه لفهمت ذلك دون تعب. كنت سأجد من كل صنف أثنين. ابتداء من المعلقة والسكين. وحتي الأطباق. صمت ثم قال: كأنها سفينة نوح. سألني: هل سمعت عنها؟ تنبهت من ذهولي وأنا أقول: نعم.. نعم. رادت لنفسي: سفينة نوح. يا سلام علي المصادفات. قال لي أنه مستعد للذهاب معي للشقة ليريني ذلك بنفسه. علي الطبيعة وبالمرة يقيم فيها. لأن أسعار الفنادق نار. قبل إن نتحرك في اتجاه الشقة لإتمام المعاينة في حضوره والتأكد من حكاية ثنائية الأدوات التي يخيل إلي أن الرجل استبدل بها حياته الزوجية. سألته عن قبر العائلة أين هو؟ قال أنه لايعرف للعائلة قبرا. سألته إن كان يرغب في نقل شقيقه من مقابر الصدقة؟ ردد ورائي كلمة الصدقة؟! دون أن يرد علي. أكمل أن الأوراق التي في الشقة يمكن أن تدلني علي مكان القبر. سألني ونحن نركب السيارة.. ولم تسأل عن القبر كفي الله الشر. لم يبق حيا من العائلة سواي. وها أنذا أمامك. ثم إنني سأكمل عمري في الخارج وسأموت في الخارج. رنت في خاطري آية قرآنية كثيرا ماسمعتها في سرادقات العزاء: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وماتدري نفس بأي أرض تموت. لم أرد عليه ونظرت للناحية الأخري من الشارع. كان الشارع مغلقا. ممنوع المرور فيه. وعلي البعد كانت جنازة في أول الشارع. تتقدم بهدوء وسكينة وصمت يناسب جلال الموت. عاد يسألني عن السرفي سؤالي عن القبر. وعن سبب إحجامي في الكلام عن موجودات شقيقه. ولكني لم أجد في نفسي رغبة في الرد عليه. قلت: سوق يا اسطي. تمت