في زيارة قصيرة لمصر, تعد الأولي منذ ثورة25 يناير, ألقي الخبير الاقتصادي العالمي جوزيف ستيجلتز الأستاذ بجامعة كولوبيا الأمريكية, والحائز علي جائزة نوبل للاقتصاد في عام2001, محاضرة بمكتبة الاسكندرية. تناول فيها أبعاد الأزمة المالية العالمية, وكشفها لفشل اقتصاد السوق الحرة. واستعرض تأثيرات الأزمة علي سياسات الدول المتقدمة وصندوق النقد والبنك الدوليين. وتوقع أن تمر دول الربيع العربي بمرحلة تحولات صعبة وطويلة قبل أن تصل إلي مرحلة الاستقرار وقال إن النموذج الألماني هو الأنسب لها لأنه يجمع بين دور حكومي نشيط وتشجيع القطاع الخاص في الوقت نفسه. وفيما يلي ما طرحه ستيجلتز في محاضرته. قال جوزيف ستيجلتز أن النموذج الاشتراكي الذي تتحكم فيه الدولة في الاقتصاد قد فشل, كما أكدت الأزمة المالية العالمية الأخيرة في عام2008 ان الاقتصاد الليبرالي الجديد أو النيو ليبرالي قد فشل هو الآخر في إدارة الأمور. وثبت بالدليل القاطع خطأ نظرية السوق تصلح نفسها بنفسها, حيث فقد نحو7 ملايين مساكنهم في الولاياتالمتحدة, وتضاعفت نسبة البطالة بعد انخفاض معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي ليصل إلي20% بين الشباب. ولفت إلي أن الأمر نفسه حدث في الدول الأوروبية, حيث بلغت نسبة البطالة بين الشباب في أسبانيا نحو30%, وهو ما دفع الشباب إلي التظاهر لتغيير ضوابط العملية السياسية, بعد أن أدركوا أنها لا تخدمهم. وأضاف أن التظاهرات تغطي أيضا العديد من الدول الأوروبية, بسبب الغضب من السياسات الاقتصادية التي لا تلبي احتياجاتهم, ولا تحقق الاستغلال الجيد للموارد. والنتيجة الواضحة هي ان اقتصاد السوق لا يعمل بالطريقة المثلي, لأن السوق لاتتحرك وفقا للعوامل الاقتصادية فقط, ولكن هناك عوامل أخري لا تقل أهمية, وفي مقدمتها كيفية امتصاص البطالة بين الشباب. ولفت الانتباه إلي دراسة أعدها قبل سنوات خلصت إلي أن ثمة أيادي خفية تلعب في السوق, وأنه ما لم تكن هناك ضوابط فإن السوق ستتعرض لأزمات مستمرة. فقاعة أم تنمية مستدامة انتقد الاقتصادي العالمي تركيز اقتصاد السوق علي زيادة نمو الناتج المحلي الاجمالي فقط, مؤكدا أن من يحصد هذه الزيادة هم أصحاب الوظائف العليا, ولا يشعر بها أصحاب الوظائف الوسطي وبالطبع الدنيا. واستشهد بوضع الاقتصاد الأمريكي قبل الأزمة المالية في2008, حيث كان يبدو أن هناك ازدهارا اقتصاديا, ولكن بعد أن خيمت تداعيات الأزمة اتضح انه لم تكن هناك تنمية اقتصادية مستدامة, بقدر ما هي فقاعة, حيث أن النسبة العظمي من الأرباح كانت في القطاع المالي, كما أن أسعار العقارات كانت خيالية ومبالغا فيها, ولم تلبث أن فقدت40% من قيمتها, وكشفت الأزمة أن هذه الأرباح عبارة عن سراب. ولفت إلي ضرورة أن تنعكس آثار النمو الاقتصادي علي فئات المجتمع, وإلا فإن المستقبل يصبح في خطر. وانتقد ستيجلتز سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين بسبب تمسكهما طوال السنوات الماضية بهذه السياسات, حيث ظل المسئولون في البنك الدولي حتي بعد الأزمة يتحدثون عن أن السوق لم تؤد دورها بشكل سليم, دون الالتفات إلي أهمية وجود ضوابط, وحوافز تسهم في ضبط إيقاع الأداء. وأضاف قائلا: لقد كنت استغرب تصريحات المسئولين بالبنك الدولي وأدرك ان سياساته ما هي إلا نماذج نظرية, مشيرا إلي أن ثمة تغييرا جذريا لاحظه في اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين في أبريل الماضي بواشنطن. وأوضح أن المؤسستين الدولتين تشهدان حاليا عملية مراجعة فكرية عميقة, تركز علي ضرورة استهداف العدالة الاجتماعية ومراعاتها في صياغة السياسات الاقتصادية بما يضمن الاستقرار, وكذلك اتجاهما نحو تقبل فكرة فرض بعض القيود علي حركة رأس المال عبر الحدود. ووصف ستيجلتز الخصخصة بأنها تقوم علي الرشوة والفساد, كما شرحه في كتابه العولمة وعدم الرضا, إلا أن موقف قوبل بانتقاد كبير من البنك الدولي, الذي كان يري أن الخصخصة تقلل الفساد الحكومي. لكن التجربة أثبتت أن الخصخصة زادت من الفساد, بل أنها تمثل سرقة الدخل المستقبلي لهذه الشركات, مشيرا إلي أن نسبة الفساد تفاوتت في تنفيذ برامج الخصخصة من دولة إلي أخري, فكانت قليلة في المكسيك, وكبيرة في روسيا ومصر. وابدي دهشته ممن يتحدثون عن فساد القطاع العام ويغضون الطرف عن فساد القطاع الخاص الذي يضع هدف أساسي أمامه هو زيادة الأرباح, حتي وإن استغل الناس في سعيه لتحقيق ذلك. دور الدولة كان منطقيا أن يكون السؤال المهم المطروح هو ما هو إذن النظام الاقتصادي الأمثل؟ في رأي ستيجلتز إنه ذلك النظام الذي يحقق التوازن بين دور الدولة وآليات السوق, مع وجود دور بارز للمجتمع المدني. ونبه إلي أنه لا يوجد نظام جاهز قابل للتطبيق في كل الدول, وأن ظروف كل دولة وتطورها الاقتصادي والاجتماعي هي التي تحدد حجم دور الدولة, وإن اعتبر أن المهم هو كيف تقوم الدولة بدورها؟ مشيرا إلي أن الديمقراطية هي التي تحدد ذلك وفق الأولويات التي يحددها المجتمع من خلال حوار ومشاركة تكفل التوظيف الأمثل للموارد المحدودة. ولفت إلي أنه علي سبيل المثال فإن الحكومة المصرية توجه مبالغ كبيرة في الموازنة للدعم لكنها لا تذهب إلي الفقراء, لأن معظمها يتجه لدعم الطاقة والبنزين وبالتالي يذهب إلي جيوب الأغنياء, لأن الفقراء لا يملكون سيارات, وكذلك الحال بالنسبة لدعم الغذاء, الذي يحتاج إلي إعادة هيكلة, وهو ما حدث في إندونسيا بعد سوهارتو, ولكن بعد دراسة و شرح وتعريف للمجتمع, أسفر عن قناعة ساهمت في نجاح تقديم دعم حقيقي للفقراء وتوفير الكثير من الأموال المهدرة. واعتبر النموذج الأوروبي في اقتصاد السوق الاجتماعي خاصة في ألمانيا هو الأنسب للدول التي تشهد تحولات من نظم اشتراكية إلي النهج الرأسمالي, مثل دول الربيع العربي, مشيرا إلي أنه رغم تراجع معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي بسبب الأزمة المالية العالمية الأخيرة, بشكل أكبر مما حدث في الولاياتالمتحدة, إلا أن معدل البطالة لم يتزايد بنفس المستوي مما يعكس وجود تضحيات مجتمعية بحيث يتم حماية الموارد البشرية, وهذا يعكس أن الديمقراطية تستجيب للطموحات, وأن العبرة بأن يكون هناك توازن بين اقتصاد السوق ودور الدولة, وبحيث يقوم القطاع الخاص بدور, كما يجب علي الدولة ان تحرص علي توفير المناخ الداعم لذلك, وأن يكون المبدأ هو الثقة في هذا القطاع. دور الربيع العربي توقع الاقتصادي العالمي أن تكون التحولات التي تشهدها مصر وغيرها من البلدان العربية في إطار الربيع العربي طويلة وصعبة, مشبها ذلك بما عايشته الصين خلال الانتقال من نموذج الاقتصاد الاشتراكي إلي الرأسمالية, والذي اتسم بالتدرج علي مدي ثلاثين عاما وحقق في النهاية نسب نمو عالية ومستقرة. وأكد ستيجلتز الدور المهم الذي تلعبه مختلف الآراء والاتجاهات في مساعدة الدول علي التحول والانتقال الآمن, مؤكدا أهمية المساعدات الخارجية سواء في شكل أموال أو أفكار للمساهمة في دعم دول الربيع العربي خاصة مصر وتونس الآن, مع اتخاذ خطوات لتوسيع حجم التجارة مع هذه الدول, وبما يسهم في اندماجها اقتصاديا في محيطها الاوروبي والعالمي.