الصدمة, الذهول, عدم التصديق, هذه هي الانطباعات الأولي التي خرج بها الجميع فور الإعلان عن هوية مرتكب المأساة التي عاشتها النرويج مؤخرا علي يد مواطنها أندرس بريفيك. فبعد أن تهيأ الجميع انتظارا للإعلان عن مسئولية تنظيم القاعدة عن الهجوم المزدوج الذي أجمعت الآراء أن النرويج لم تشهد مثيلا له منذ الحرب العالمية الثانية, جاءت المفاجأة باعتراف بريفيك-32 عاما- بمسئوليته عن الحادثتين, مبررا ذلك بانتمائه للتيار اليميني المتطرف, وبتبنيه أفكارا معادية للإسلام, باعتباره يشكل التهديد الأكبر والأهم لهوية بلاده. وفي الوقت الذي مازالت تتوالي فيه التفاصيل سواء الخاصة بحياة بريفيك ونشأته, أو أفكاره التي أوصلته للإقدام علي مثل هذا التصرف المجنون, أو حتي الملابسات التي أحاطت بتنفيذ مخططه, فقد كان لهذا الحادث تأثير مدو ليس في النرويج وحدها ولكن في دول شمال القارة بشكل خاص وفي القارة الأوروبية بأكملها بشكل عام, وهو دفع الجميع لطرح التساؤلات وفتح العديد من الملفات الخاصة بأسباب وتداعيات تنامي التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا, ومستقبل التعايش بين أبناء الثقافات والعرقيات المختلفة في دول القارة, وتأثير مثل هذه الحوادث الدامية علي سياسة قبول المهاجرين في المستقبل بشكل عام. وهنا يشير المراقبون إلي أن أحد أسباب تزايد الشعور بالصدمة أن الحادث وقع في دولة مثل النرويج طالما اشتهرت ليس فقط بكونها الدولة الحاضنة لجوائز نوبل للسلام, بل بكونها مجتمعا مسالما منسجما مع ذاته ومنفتحا علي الأخر أيضا, والأهم من ذلك أن هذه الدولة الصغيرة ذات الخمسة ملايين نسمة فقط احتلت علي مدي العشر سنوات الماضية قمة مؤشر التنمية البشرية عالميا, وجاء مواطنوها ضمن أغني شعوب العالم, باقتصاد قوي يعتمد علي احتياطيات البترول والغاز الطبيعي, الأمر الذي جعلها دولة رفاهة اجتماعية ضمنت مستوي معيشي راقي ليس فقط لمواطنيها ولكن لكل من لجأ إليها من المهاجرين وطالبي اللجوء. وهو ما أكد حقيقتها كمجتمع ديموقراطي منفتح وحر وآمن وبعيد تماما عن العنف السياسي حتي تلك الحادثة الأخيرة. ودليلهم علي ذلك العائلة المالكة التي يتجول أفرادها في ظل حراسة محدودة, وكذلك كبار السياسيين ورجال الأعمال الذين يندمجون مع أبناء المجتمع في نمط نادرا ما يشاهد في دولة أخري, بل أن السواد الأعظم من المواطنين لايفرضون أي نوع من السرية علي أرقام هواتفهم أو عنوان مراسلاتهم أو ما شابه, الأمر الذي جعل المجتمع النرويجي بكل طبقاته يحيا حياة تبدو بسيطة, بعد أن ترسخت لديه قناعة أن العيش في مثل هذا المجتمع المنفتح ليس فقط ميزة, ولكنه يقدم للعالم نموذجا حول إمكانية أن يتعايش الجميع في سلام. وهنا جاء السؤال لماذا ظهر هذا النموذج المتطرف في مثل هذه الظروف المثالية التي يندر أن تتوافر في دولة أخري؟ وهو سؤال تنوعت التحليلات بحثا عن اجابه عليه, وان كانت في مجملها قد ركزت علي ثلاثة أسباب أولها يتعلق بتنامي التيارات اليمينية المتطرفة ليس علي مستوي النرويج فقط ولكن علي امتداد القارة, وربما يكون ذلك السبب الأهم والأوضح, بالإضافة لأسباب اقتصادية لا يمكن إغفالها مثل الركود والبطالة, ويبقي بعد ذلك العامل الذي لم يعد يمكن إغفاله والخاص بالقلق من تزايد معدلات الهجرة وما يستتبع ذلك من مخاوف حقيقية علي الهوية الثقافية والدينية للقارة العجوز. وهنا يشير المحللون لوجود حالة إحباط متزايدة لدي الناخب الأوروبي من أن المسئولين سواء علي المستوي القومي أو الأوروبي لا يستمعون لأراء وهواجس مواطنيهم في تلك القضية تحديدا, خاصة أنه مع انتشار العولمة أصبح الحديث عن الهوية الوطنية أكثر أهمية من ذي قبل, الأمر الذي اكسب الأحزاب اليمينية نجاحا في عدد من دول القارة, بغض النظرعن تضارب الآراء حول هذا الموضوع بين مؤيد يراه أمرا مطلوبا كونه يوفر قنوات مشروعة للتعبير عن مشاعر الغضب والقلق والإحباط, ومعارض يري انه يمثل خطرا علي مسار الديموقراطية في تلك المجتمعات. خاصة في ظل بعض التصريحات لعدد من زعماء القارة مثل ديفيد كاميرون أو أنجيلا ميركل, والتي حملت تشكيكا في مدي نجاح التعددية الثقافية في بلادهم وفهمت علي انها تعد تشجيعا لمثل هذا الفكر المتطرف. ولكن نظرة فاحصة علي الوضع في النرويج تحديدا توضح أنها شهدت خلال السنوات الأخيرة نوعا من الجدل حول الهجرة, خاصة مع التزايد الواضح لأعدادهم, فطبقا للإحصاءات فقد ارتفعت نسبة المهاجرين من2% فقط عام1970 إلي11% مؤخرا, كما وصلت نسبة المسلمين لحوالي4,3% من عدد السكان. وهنا يشير المراقبون إلي أن التيار اليميني أصبح يحظي بتأييد متزايد, بدا واضحا في صناديق الاقتراع حيث أصبح حزب التقدم اليميني المعارض للمهاجرين ثاني أكبر حزب في النرويج. فالحزب الذي بني دعايته في البداية علي أن الهجرة تضع أعباء كبيرة علي الدولة, حول خطابه في السنوات الأخيرة ليصبح هجوما مكثفا علي المهاجرين بدعوي أنهم فشلوا في الاندماج وأن وجودهم يتسبب في حدوث توترات في بلد صغير متجانس ثقافيا. وطبقا لما تتناوله الصحف, فان تقريرا للشرطة النرويجية في مطلع العام الحالي رصد نشاطا لبعض الدوائر اليمينية المتطرفة, وحذر من تصاعد وتيرة الجماعات المعادية للإسلام, ومن أن ذلك قد يؤدي لاستخدام العنف مع اقراره بأن الخطر الأكبر مع ذلك يأتي من جانب المتطرفين الإسلاميين. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا حدث الهجوم علي مواطنين نرويجيين ولم يستهدف أبناء الجاليات المسلمة من المهاجرين, والإجابة أنه أراد توجيه رسالة مفادها أن تسامح الأحزاب الحاكمة علي مدي العقود الماضية هو الذي سمح بهذا الوضع, ومن هنا كانت رسالته العقابية للمسئولين الذين وضعوا المجتمع في هذا الموقف. وهنا يحذر بعض المحللين من وجود العديد من التيارات اليمينية المتطرفة داخل أوروبا تشارك المتهم أفكاره حول الحاجة لاتخاذ إجراءات ثورية ضد خطر الإسلام, والدليل علي ذلك عشرات الحالات التي تم إلقاء القبض عليها في السنوات الأخيرة بسبب التخطيط لأعمال عنف وإرهاب في بريطانيا. والأمر الذي لا خلاف عليه أن ما حدث في النرويج طرح عدة ملاحظات حول الوضع بأكمله, أولها أن الحديث فشل التعددية الثقافية, وأن الوقت قد حان للقتال دفاعا عن هوية قومية مسيحية لأوروبا أصبح مثل كرة الثلج يزداد حجما كلما تحرك, خاصة في ظل تزايد القلق من تركز المهاجرين وطالبي اللجوء في دول شمال أوروبا الغنية, وثانيها أن الحادث أوجد شعورا قويا بالتضامن بين الدول الغربية مع النرويج, فهناك قضايا مشتركة تهيمن علي المناقشات السياسية وهي الدفاع عن المجتمعات الديموقراطية ضد المتطرفين الذين تحركهم دوافع الغضب والرفض لأفكار مثل التعددية والتسامح. وايا كانت الحقائق التي ستتكشف لاحقا, فان الأمر الذي لاخلاف عليه أن التداعيات السياسية والأمنية لحادثتي النرويج ستستمر لمدة طويلة, وأن طبيعة السياسات اليمينية في أوروبا قد تغيرت, الأمر الذي يستلزم تغييرا كاملا وجذريا في البحث عن حلول فعالة لهذه الحقائق الجديدة التي وضعت المجتمع النرويجي وأوروبا بشكل عام أمام حقيقة لابد أن يتفهمها, وهي أن التطرف يعد خطرا داهما بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس, وأن النقاش حول قضايا الهجرة والتعددية الثقافية يجب أن يكون نقاشا مفتوحا وشفافا, بعد أن أصبحت هذه الموضوعات الحساسة علي قائمة اهتمامات الجميع, فأوروبا لابد أن تقف هذه المرة في مواجهة مع ذاتها في مثل هذه القضايا الشائكة.