كان الميدان أمام مسجد السلطان يرفل في أضواء خافتة, والبقعة الخضراء في الوسط مسيجة بأعمدة خضراء وصفراء تعزي الجسد المنهك براحة مختلسة وباستقبال نسائم الليل الرطبة. تناثر الحضور في دائرة الخضرة. وفي الزوايا علي اليمين واليسار ثنائيات تنشغل بنفسها, وبالهوي الكامن فيها.. خطفت يده وعبرت.. توقفت قليلا, ثم اتكأت علي ذراعه وهي تصعد الدرج.. اختارت مكانا مستورا بسعف نخلة صغيرة أدارت ظهرها ولاحقت عيناها الطريق.. أرجحت ساقيها حتي كاد حذاؤها يسقط, وازدهي وجهها بفرح طفولي, وتمايل جسدها المكتنز في حركات متناغمة.. خشي أن تلفت الأنظار فضغط علي يدها, أطبقت جفنيها وصدرت منها آهة طويلة. ودارت برأسها, وتمهلت عند الثنائيات وحدقت. كان بائع النصبة يقف علي رأسها كأنه يقصدها.. رمقها وظل يردد سخن, بارد. تلفتت اليه تستشيره, فزم شفتيه وسكت. صرفت الفتي إلي حين, لكنه لبد, فجأر صوتها زاعقا.. انحني ومضي. لولا قربي من البيت لفضحته أومأ برأسه, فرددت في غضب لا أحب الإلحاح خبطت بحذائها السور, وتأففت ولا من يفرض نفسه أدامت النظر اليه, تفرست في ملامحه وأسف يطل من عينيها. يحسبنا حبيبين وزفرت كأنها تتحسر وهي تخطف هيئته خطفا.. لا يعرف أننا فوق الستين. رآها فرصة, ففك شفتيه وقال متهللا: أنت لا تكبرين. أعتدلت وراحت تضرب بقدمها حجر السور. ثم استندت علي ذراعها ومالت عليه بثقل جسدها.. وقفزت الي أسفل. سارا معا تسللت يدها إلي ذراعه وتأبطته. كان الطريق شحيح الضوء, وينحدر ويدور مع سور الجامع. .. تحدثت عن سكان الحي الذين يعرفونهما, والبيت الذي يقع بعد النزلة في الشارع المزدحم. ضغطت علي ذراعه وتريثت.. ماذا يقولون.. لو رأونا؟ ود لو تحدث, لكنها أسرعت ونغزته بكوعها وقالت.. حبيبة. وزعق صوتها ضاحكا.. تباهت في مشيتها وزهت. كان جسدها يثقل عليه في حركته.. حاول أن يبعد جسده,أو يفلت ذراعه,لكنها أحكمت ضغطتها, وشدته في هرولة حتي كاد ينكفئ. نتش ذراعه, وأشار الي المارة. .. جلسا في المكان الذي تعودا عليه.. كانت الأشجار داكنة. ورشات الضوء الخافت تباغتها وتخللها.. وثمة ظلمة تسري خافتة.. ولاح المكان واشيا براحة مختلسة. اتكأت علي المقعد الخشبي وطلبت كوب شاي وزجاجة مياه. دارت برأسها ومسحت بعينيها المكان وبدت كأنها تحتج. الجنينة قريبة من البيت. انفرجت شفتاه وظل صامتا. مالت بجسدها ناحيته ورقت ضحكتها أخاف أن يرانا أحد. عدلت من ياقة الجاكيت.. كان اللون الرمادي المائل إلي الدكنة يبرز جمالها, ويضيء وجهها الأبيض المكتنز. مسكت بزجاجة المياه وملست عليها أخبرني بموعد اللقاء قبلها بيوم أبدي دهشة ممطوطة كأنه يعترض. فتحت غطاء الزجاجة وشربت. أغلقتها ثم وضعتها في حقيبة يدها. أحكمت غلقها.. نظر إليها ولم يعلق. البيت لا يفرغ من الزوار. غرزت إصبعها في ساقه وضحكت بيت العيلة كانت ضحكتها زاعقة, فوضعت يدها علي فمها وتلفتت. جاءت خالتي بزوج لي! ورفضت.. كنت ضحكتها وصدرها يرتج.. أشترط أن أرتدي العباءة. مدت يدها وشدت فتحة قميصه وألزم البيت. راحت تطوف بعينيها المكان, وتدير رأسها.. مسكت بإصبعيها فتلة عبوة الشاي وغمستها بالكوب ثم طوحت بها.. طبعا أرفضه.. لا أحب الحبسة. ولفت ذراعيها علي صدرها. .. أغمضت عينيها.. وظلت عيناه تراوحان وجهها لم يرد أن يشغلها.. تركها.. وظل يرمقها. تحرك الجفن ولمحته ينظر إليها.. كأنما ينتظر .. أشارت إلي ذؤابات الشجر تتداخل في الضوء الخافت وتصنع أشكالا.. تمتمت في خطفة صوت مزهوة.. كأنها تشير إلي.. مالت برأسها وفردت ذراعيها لو كنا بالنهار لقطفت وردتين. تحبين الورود جفلت,وتراجعت, ونظرت إلي ثوبها, ورنت إليه.. كانت وردات تداخل وتتسرب ألوانها في النسيج.. مستها بكفها لو زرتني لوجدت الكثير .. لملمت بأناملها وردة تتبدي في ثوبها وحدقت فيه.. خذها وراحت تضحك. .. شدته من يده.. عندما خرجا.. كان الشارع غاصا, والناس يتزاحمون.. ويتصادمون.. بجانب السور وأمام الميدان يعرض الباعة بضائعهم.. وتتعالي الأصوات وتختلط.. توقفت أمام صينية متسعة الدائرة, بالفراولة, تزهو بحمرتها, ولمعانها الذي يعكس ضي الشارع. تلكأت.. تركت كفه ووقفت, مدت يدها وانتقت حبات زاهية نصف كيلو ارتبك.. هو الذي لا يفهم في هذه الأمور تقدم وطلب من البائعة أن تزن2 كيلو. ابتسمت له وقالت فرحة: ضمنت الحاجة أن تأكل وتشبع. حملت عينه استفهاما فبادرت قائلة: علي السطح وحيدة.. تستحق الصدقة. .. قبض علي الكيس, واستندت هي علي حاجز حجري.. أخرجت منديلا من الورق ومسحت حبات من الفراولة, وراحت تلوكها في تلذذ واضح.. ورمقته ممتنة. الفراولة حلوة.. .. وبدت سعيدة.. وراحت تخطر في مشيتها.. نسيت الناس, وازدحام الشارع, وسرعة السيارات.. وهو يهرول وراءها ويشدها.. يبعدها عن العربات.. السائقون يلقون بالسباب واللعنات, ويبصقون.. .. وفلتت من يده. راحت تتحرك مبتعدة.. تقبض علي الكيس.. وتقفز في هرولة.. لم تتلفت وراءها. وكان يقف مبهوتا.. كأنه لا شيء.. .. استدار ومضي. ---------------------------------- عن الكاتب صدر له سبع روايات منها السيد الذي رحل وحرث الأحلام, ورأيتك في المنام. وصدر له سبع مجموعات قصصية منهاصدأ القلوب البنات والقمر صانع البهجة. كما صدر له في الدراسة الأدبية والقراءة النقدية خمسة عشر كتابا منها.. القصة في القرآن.. مقاصد الدين وقيم الفن والرؤي والأحلام وينابيع الواقع. حصل علي جائزة نجيب محفوظ عن روايته الضوء والظلال من المجلس الأعلي للثقافة1995. حصل علي جائزة التميز من اتحاد كتاب مصر.2010