لا يوجد ما يخفف وطأة استبعاد الدكتور حازم عبدالعظيم عن منصب وزير الاتصالات سوي اختيار الدكتور محمد سالم لهذا المنصب, ومع ذلك فهذا الحل لا يهيئ الفرصة كي تستفيد البلاد من الرجلين كما ينبغي. لأن كليهما جري إبعاده عن المرحلة التي تناسبه, الأول فقدناه الآن في الحالة الثورية, كثيفة الحركة سريعة الأثر, والثاني سنفتقده مستقبلا في الحالة التنموية عميقة الأداء طويلة النفس. قلت مرارا إن فترة الأشهر التالية للثورة والأشهر المقبلة حتي استقرار الحكم في أيدي حكومة منتخبة هي فترة لها أجندة استثنائية في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات, لأن هذه الفترة تمثل حالة ثورية تتسم بالسيولة وفك وإعادة بناء وصياغة كل شيء, وفي المقدمة النظام السياسي للبلاد, ولذلك فهي تمثل فرصة يتعين علي وزارة الاتصالات أن تستفيد منها, وتتبني أجندة لإخراج القطاع من عباءة فلسفة السلك والجهاز التي طبقتها خلال العقد الماضي, وتجعله يقتحم مطبخ إعادة بناء الدولة الجديدة, ليفوز بالمساحة التي يستحقها داخل الدائرة الفعلية لصنع القرار بالنظام السياسي المرتقب. وقد تناولت هذا الأمر بشيء من التفصيل في الأسبوع الماضي, وأوضحت أن معظم بنود هذه الأجندة يتعلق بترتيب الأوضاع من أجل التأسيس لمكانة جديدة لهذا القطاع داخل سلم أولويات الدولة والمجتمع, وقدمت بعض النقاط التي رأيت أنه من المهم لوزير الاتصالات الجديد أن يركز عليها, منها التقدم لصناع القرار في الفترة الحالية برؤية واضحة حول دور القطاع في إدارة الدولة ومواردها, وفي الانتقال بها من النموذج الإداري الاقتصادي التنموي التقليدي المهتريء القديم, إلي النموذج العصري المستند للمعلومات والمعرفة الذي تلعب فيه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات دورا حاسما وحاكما, ومنها إرساء أسس جديدة لإدارة علاقات القطاع بقطاعات الدولة الأخري بصورة أكثر ندية, والمشاركة بقوة في حزمة التشريعات المطروحة للنقاش حاليا وفي مقدمتها الدستور, ثم مجموعة القوانين ذات العلاقة بالحقوق الرقمية, والدور المفترض للقطاع في العملية الانتخابية والمشهد السياسي عموما. وفي الأوقات الثورية من هذا النوع يتطلب الأمر كثافة في الحركة وتفكير منطلق وجديد, ربما يكون غير مجرب أو معتاد من قبل, ويحمل قدرا من الخيال الذي لا يجد غضاضة في طلب القفز فوق الموانع القائمة أو المتخيلة, من حيث استقلال الرأي وارتفاع سقف مستويات التغيير والاشتباك مع قواعد راسخة ومرعية داخل منهجية السلطة والحكم سعيا إلي تحقيق الحلم الجمعي الذي تعيشه الجماهير الواسعة, فضلا عن تواصل عفوي ومحسوس مع المزاج العام وحركة المجتمع الهادرة بالميادين والشوارع وملاذات الفضاء الرقمي الرحبة بما يموج فيها من طلائع شابة متوثبة. وإذا نظرنا إلي الدكتور حازم عبدالعظيم أخذا في الاعتبار الملابسات السابقة, سنجد أنه من ناحية القدرات المهنية والإدارية تدرج في العديد من المناصب التي عادة ما تكون مطلوبة كأرضية لمنصب وزير الاتصالات, فقد عمل في القطاع الخاص والقطاع الحكومي والشركات العالمية والجامعة, ومن ناحية منهجية التفكير قضي جانبا كبيرا من حياته في العمل الإبداعي القائم علي الانطلاق في دروب جديدة غير معتادة, ويكفي أن نعلم أن وظيفته الحالية هي المدير التنفيذي لمركز الإبداع وريادة الأعمال بالقرية الذكية, وكانت إحدي محطات حياته العملية إنشاء الشركة, التي أقام البعض حولها مسرحية سخيفة هابطة كان لا يجب التوقف عندها من الأساس, ومن حيث المزاج العام هو متمرد انضم لتيار البرادعي مبكرا, ومارس الحركة باستقلالية واضحة حتي قبل اندلاع الثورة, وله حضور وامتدادات مع مجموعات من الثوار كانوا الأكثر لمعانا في فترة من الفترات. وخلال الأسابيع الأخيرة وقبل ترشيحه وزيرا جمعتني مع الدكتور حازم جلسات عمل في إطار جهد تطوعي يضم أطرافا أخري, وكان هدفها إعداد لائحة تنفيذية لقانون مباشرة الحقوق السياسية تضمن دخولا آمنا عاقلا فعالا لتكنولوجيا المعلومات في العملية الانتخابية برمتها, وأيضا من أجل مناقشة كيفية التعامل مع قضية الدستور الجديد بطريقة تسمح بإقرار مباديء داخل الدستور تصون الحقوق الرقمية للمواطن المصري داخل قطاع الاتصالات وخارجة حماية كاملة, وخلال هذه الجلسات تناقشنا في أمور شتي داخل القطاع وسياساته وقضاياه ومستقبله, وأستطيع القول إنه يعتنق أجندة عمل للقطاع في هذه المرحلة تختلف كثيرا عما شهدناه خلال الأشهر وربما السنوات الماضية, فهو يتبني فكرا به قدر واضح من الزخم نحو التغيير الجذري الذي يمهد الطريق لعملية بناء وتنمية بعد ذلك, وفي سبيل ذلك يري أن الأمر يحتاج جهدا كثيفا صريحا مباشرا في وضع آليات جديدة لعلاقات القطاع مع قطاعات الدولة الأخري ومراكز صنع القرار فيه, تسمح مستقبلا ببناء توجهات تنموية مختلفة, كما يؤمن بالعمل من أجل الدفع بالقطاع إلي كل ساحات العمل الوطني بلا استثناء خاصة في هذه المرحلة, ولعلنا نذكر أنه ربما كان الوحيد من بين المرشحين للوزارة الذي ذكر وكرر بوضوح قضية تسليم الأمور لحكومة منتخبة بعد عدة أشهر. وفي ضوء السمات والقدرات الشخصية والمزاج العام السائد سواء داخل القطاع أو خارجه كان من الأوفق أن يقع الاختيار في هذه المرحلة علي شخصية مثل الدكتور حازم عبدالعظيم, وربما يفسر ذلك حالة الفرح والترحاب الشديد الذي قوبل بها ترشيحه ليس داخل القطاع فقط وإنما خارجه, وأيضا حالة الإحباط التي سادت بعد قرار استبعاده من الوزارة, ولذلك أقول أن عدم وجوده الآن لم يكن قرارا سليما, أما السخف والمهازل الإعلامية التي صاحبت إبعاده فلم تكن سوي مسرحية هزلية لا تستحق الوقوف عندها, ألفها وأخرجها بعض ممن لايزالوا يقبعون في الظلام, وتولي فتح الستار عنها, ثم إغلاقه بضعة أشخاص في وسائل الإعلام المقروء والمرئي, تحركهم أصابع من يقبعون في الظلام, إما بالإيحاء أو الجهل أو بدافع المصالح المشتركة. أما إذا نظرنا إلي الوزير الجديد الدكتور محمد سالم, فنحن أمام نموذج مختلف اختلافا يدل علي أن هذا الوطن غني بخبراته المتنوعة, فمحمد سالم حرفته بالقطاع تنمية وبناء البشر علي طراز احترافي, ليس فقط مهاريا ولكن إداريا وقياديا أيضا, وقد عرفته منذ سنوات طويلة عالما تحترم علمه وتقدره, وشخصية قوية وقيادة إدارية حازمة عادلة هادئة نظيفة اليد والسمعة, وذات إحساس وطني ناضج وراق, وهو قبل ذلك قيادي من طراز يعمل في صمت ويبني من أسفل بنفس طويل ولا يستعجل الأمور ولا تغريه الزراعة السطحية غير الضاربة في العمق, بل يفضل أن يرسي أسسا قد لا يطيق الكثير من السياسيين وقطاعات من الجماهير الصبر عليها لأنها بلا ثمار سريعة. شخصية بهذه المواصفات تصل لقمة عطائها في عمليات التنمية الهادئة طويلة النفس, وفي التخطيط طويل الأجل في إطار مكتمل, ولذلك كنت أتوقع أن يطرح اسم الدكتور محمد سالم كوزير للقطاع في أول حكومة منتخبة وليس الآن, ليتولي شئونه لسنوات في مرحلة تتطلب الدأب والصبر علي الفوائد البعيدة, وكان تصوري أنه لو جاء وزيرا بعد الانتخابات فسوف نشهد سياسات مختلفة طويلة الأجل في التنمية البشرية وتطوير الأعمال والوزن النسبي لجهود بناء أسس صناعة البرمجيات المحلية والنظم مقابل صناعة التعهيد, وسياسات مختلفة في إدارة الطيف الترددي بقطاع الاتصالات وفي إدارة العلاقة من الشركاء الأجانب وفي عمليات نقل المعرفة والخبرة, وفي مشروعات التنمية المعلوماتية المجتمعية الأكثر تغلغلا في جنبات المجتمع, وفي إطلاق عمليات الإبداع وتهيئة المناخ للشركات الناشئة والصغيرة, وتنويع المدارس الفكرية داخل القطاع خاصة فيما يتعلق بالبرمجيات مفتوحة المصدر, واستكمال مبادرةء ممر المعلوماتية المصري الذي يقترح طريقا أكثر تطورا لبناء الكوادر البشرية, إلي غيرها من الجهود التي لا يمكن أن تدخل في أجندة فترة عاصفة فاصلة بين عهدين, الماضي فيها لم يمت والمستقبل لم يولد بعد, بل تناسبها مرحلة ما بعد الاستقرار علي ملامح البناء الجديد واتضاح الرؤية واستقرار الأوضاع. وأخشي ما أخشاه الآن ان نبحث عن الدكتور محمد سالم في المرحلة المقبلة التي نحتاجه فيها أكثر من الآن, فنجد الظروف قد تغيرت والفرصة قد ضاعت, ويصبح علينا البدء من الصفر في البحث عن رجل مثله ليقود القطاع. في كل الأحوال أتمني من كل من تحمسوا للدكتور حازم أو تريثوا مع الدكتور محمد سالم أن يعلموا جيدا أن الأصعب والأقسي لم يبدأ بعد, وأن ما حدث في الأشهر الماضية أو يحدث الآن أو سيحدث خلال الأشهر المقبلة ليس نهاية المطاف, بل بداية لجولة جديدة من العمل الوطني تحتاج تكاتف الجميع, وفي النهاية نحن أننا أمام رجلين يمكن لكل منهما العمل سواء الآن أو مستقبلا, لكن لكل منهما خصائص تجعله مناسبا لمرحلة أكثر من غيرها, ولو بذل صناع القرار قدرا أكبر في الاختيار لكانت البلاد قد حصلت من الاثنين علي أفضل ما لديهما, وأيا كان الأمر نتمني لكليهما التوفيق.