لم تكتمل الإنسانية بأبعادها المتعددة, من فكر وحضارة وعلم وأخلاق ومادة وروح, إلا بميلاد رسالة النبي محمد صلي الله عليه وسلم , فقد مرت البشرية لحكمة من الله تعالي بمراحل متتالية, منذ خلق الله آدم عليه السلام , وحتي بعثة النبي صلي الله عليه وسلم, كل مرحلة تتسم بصفات تتناسب وطبيعتها, ولا تشكل في منهجها كمالا يرقي إلي ما يمكن أن نسميه النضج الإنساني والاجتماعي, لم يحدث هذا النضج إلا ببعثة ورسالة النبي محمد صلي الله عليه وسلم ولذلك فإن ثمة ترابطا كبيرا بين ميلاد الحياة وميلاد الرسالة النبوية المحمدية( صلي الله عليه وسلم) وصدق الله العظيم اذ يقول( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فدعوة الرسول محمد صلي الله عليه وسلم والتي تمثل رسالته هي بعث جديد للحياة بنص الآية الكريمة. بعث في العقيدة الصحيحة, بعث في اخلاق البشرية ومفاهيمها ومعاملاتها وكل ما من شأنه إحياؤها حياة سوية كريمة تمثل مزرعة خصبة للحياة الأبدية في الآخرة. ميلاد شريف ورسالة مقدسة, ومبلغ القداسة في الأمر, أن رسول الله محمد صلي الله عليه وسلم, لم يولد في بيئة من الجمال الخلقي والاستقرار النفسي والأمان الإجتماعي, بل استقبلته قسوة الجبال وفقر الوديان التي يجاهر فيها سكانها بجهالتهم, وتمزق وشائجهم وتفاهة تفكيرهم, وبلادة حسهم, وجمود مشاعرهم, وانصرافهم عن النظر في العلم والمعرفة, لا يعرف التطور لهم طريقا, غرقي في الحروب المتواصلة, مجتمع ترمل فيه النساء, وييتم الأطفال, وتوأد الإناث ظلما وجهلا, تلك الصورة القبيحة هي التي استقبلت ميلاد النبي العظيم محمد صلي الله عليه وسلم , ولهذا وغيره هيأه الله ورباه لأداء رسالة التغيير لذلك المجتمع القاسي بكل ما فيه من سواءات وعورات. لا شك ان النبي صلي الله عليه وسلم هو خيار من خيار كما قال عن نفسه( أنا خيار من خيار من خيار) فقد ولد من أبوين قرشيين عزيزين كريمين عبد الله بن عبد المطلب و آمنة بنت وهب, وتربي في أسرة حافظت علي مكارم الأخلاق, وحملت الكثير منها, وكانت مثالا للشرف والأخلاق الكريمة والمروءة في قريش وغيرها.. ومع الإقرار بهذه الأرض الخصبة والسلالة الطاهرة التي ولد منها النبي محمد صلي الله عليه وسلم , إلا أن أمر الإصلاح البشري يقتضي تربية ربانية خاصة, وهذا هو ما أشار إليه القرآن حيث قال تعالي( الله أعلم حيث يجعل رسالته).. وما أكده النبي صلي الله عليه وسلم في قوله( أدبني ربي فأحسن تأديبي), ليحقق المعادلة الصعبة في الدعوة, والتي لابد لها أن توفق مابين المتناقضات, عشيرة قريبة لابد لها من الود والتقدير,( وأنذر عشيرتك الأقربين) ثم وثنية تتمثل في عبادة الأصنام والأحجار, لا تسمع لصوت العقل, ولا تصغي إلي نداء الوجدان, كما قال تعالي( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا, أو لوكان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون), أناس شبههم الله في إغلاق عقولهم وعدم فهمهم بالبهائم التي ينعق راعيها فتسمع الصوت ولا تفهم مغزاه, وتحس بالنداء ولا تفهم معناه, فقال عنهم( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء, صم بكم عمي فهم لا يعقلون). ان تأهيل النبي محمد لحمل رسالة الاصلاح معضلة صعبة بمقاييسنا البشرية, لكن لله مقاييس أخري تتسم بطلاقة القدرة وإحداث المعجزات وخوارق العادات. بدأت رسالة الإصلاح البشري بالعلم( اقرأ باسم ربك الذي خلق), في دلالة علي أن العلم هو الأساس الأول في صلاح البشرية..العلم النافع, المبني علي أسس شرعية وعقلية وموضوعية( باسم ربك الذي خلق). اهتمت رسالة السماء بالعقل واعتبرته ركيزة كبري في الإصلاح( أفلا يتدبرون القرآن أم علي قلوب أقفالها) وكذلك قوله تعالي( أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة, إن هو إلا نذير مبين) وغير ذلك الآيات التي تدل علي ضرورة الحوار العقلي والموضوعي والواقعي, وأثر ذلك في الإصلاح الإنساني والتغيير الاجتماعي. أساس ثالث لابد أن يتسلح به من تصدي للإصلاح بشكل خاص, والمجتمع كله بشكل عام, أشار إليه القرآن في أوائل ما نزل به الوحي من آيات( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا), في إشارة الي ضرورة التزود بالهمة العالية, والجلد والصبر علي حمل الرسالة العظيمة رسالة الإصلاح.. رسالة الإسلام, وهذا درس للمصلحين علي مر التاريخ. هذه المرتكزات وغيرها,حددت ملامح وأطر الإصلاح والتغيير في إطار من مكارم الأخلاق, والتي تحلي بها النبي صلي الله عليه وسلم الي الحد الذي وصفه به ربه في قوله تعالي( وإنك لعلي خلق عظيم) وكماقال صلي الله عليه وسلم( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) كان قرآنا يمشي بين الناس, كما وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها ( كان خلقه القرآن) كان رحمة مهداة حتي مع من ناصبه العداء, فعندما قيل له ادع علي المشركين قال صلي الله عليه وسلم 'إني لم أبعث لعانا, وإنما بعثت رحمة'- قال عنه رب العزة :( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). في فتح مكة قال لأهلها: ماذا تظنون أني فاعل بكم ؟- وهم الذين طردوه وآذوه وقاتلوه- قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء, كان رفيقا خاصة بالضعفاء وكان من دعائه صلي الله عليه وسلم:( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا, فشق عليهم, فاشقق عليه, و من ولي من أمر أمتي شيئا, فرفق بهم, فارفق به) كان صلي الله عليه وسلم تجسيدا حيا للعدل وإقامة شرع الله تعالي ولو علي أقرب الأقربين. فقد قال صلي الله عليه وسلم( والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ). وكيف لا وهو القران الحي بين الناس وقد قال تعالي:( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهدآء لله ولو علي أنفسكم أو الوالدين والأقربين) كان صلي الله عليه وسلم سيد المتواضعين, وهو بذلك يتخلق ويتمثل بقوله تعالي:(( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين)). كيف لا وهو الذي كان يحذر من الكبر أيما تحذير فقال:( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) لقد كان النبي صلي الله عليه وسلم جميلا في كل شيء هاشا باشا رفيقا رقيقا. سألته امرأة عجوز قالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة, فقال لها النبي صلي الله عليه وسلم مازحا: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز, فولت تبكي, فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز, إن الله تعالي يقول:(( إنآ أنشأناهن إنشآء, فجعلناهن أبكارا, عربا أترابا)). أمثلة كثيرة من الاخلاق الكريمة لا يتسع المقام لذكرها من الصبر والرحمة والحلم والكرم والتواضع في الأسرة والمجتمع والدولة والقيادة والريادة, أهلته صلي الله عليه وسلم لأن يكون سفيرا بشريا من السماء إلي الأرض, حمل من القرآن وحيا أصلح الإنسانية وغيرها, فكان ميلاده وبعث رسالته صلي الله عليه وسلم هو ميلادا للبشرية والعالمين, بل والحياة بأسرها.