مثلت الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير نموذج يتمتع بقدر لا بأس به من الفرادة والخصوصية, ومن أهم ملامح تلك الفرادة هو ذلك المربع الذي أسهم بأدوار في إنجاز الثورة في مرحلتها الأولي فضلا عن أدوار أخري مكملة تتعلق بحماية الثورة من أعدائها وحماية. مكتسباتها, تمثل ذلك المربع في قوائمه الأربعة: الشعب والشباب والجيش ممثلا في مجلسه العسكري وأخيرا تقع الحكومة لتكتمل أضلاع مربع حماية الثورة ومكتسباتها. ويحسن في البداية أن نؤكد أمورا زرعت حالة من عدم الثقة بين هذه الأطراف الأربعة تعود معظمها لسببين رئيسيين:- الأول: فجوة المعلومات التي تشكل أزمة اتصال بين الأطراف الأربعة (الشعب والشباب والجيش والحكومة) وهو أمر يشير إلي مشكلة الشفافية في انسياب المعلومات لدي الجميع, نري في وقت من الأوقات الصمت المطبق هو سيد الموقف وفي القواعدالتي يجب أن يمتثل إليها أنه لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة إليه سكوت حيث يجب البيان وكلام حيث يجب السكوت, هذا التقدير الأساسي يجعل للمعلومة التي تقال أدوار في توقي الفتنة وحالة الشك وعدم الثقة, المعلومات تميط اللثام عن كثير من الأمور التي يجب أن يعلمها الكافة في ظل هذه المرحلة الدقيقة والخطيرة. إن تقاليد حبس المعلومة أو احتكارها أو تزييفها أو اتباع منهج التهويل أو التهوين, إنما هي أساليب ولي زمنها, اتبعها النظام البائد ليحكم منظومة استبداده وتحكمه, وممارسة هذه التقاليد الفانية والسلبية أمر لا يمكن تحمله أو استمراره خاصة في مرحلة انتقالية دقيقة يجب أن تتسم بالشفافية في تحديد الأدوار لشعب طال انتظاره لنيل كرامته والتمكين لحريته, ولشباب جففت فعالياته عن عمد وصارت بطالة الشباب عنوانا لمرحلة سابقة, سجن البطالة لم يعد يحتمله أي أحد من الشباب, وطاقات الفاعلية والإسهام في كل شيء وقت ساعته ولجيش يتعرف علي دوره في حماية الثورة ومكتسباتها كرصيد تاريخي لمؤسسة عسكرية في مصر, وقيمة مضافة بموقفه إبان الثورة في انحيازه للشرعية الشعبية التي انطلقت ثورة25 يناير لتبعد عنها من شعب عظيم احتضن شرارة الشباب فمثل الرصيد والخزان من الميدان وفي الميدان, ليبعد هذا المربع وبكل هذه التجليات عن حماية هذه الثورة في أدوارها ومكتسباتها وبلوغ مطالبها ومواجهة تحدياتها, معا في حضور هذه الأركان ليعتمد أصول الثقة الواجبة بين الأطراف الأربعة تغذيها حركة الاتصال المناسبة والمعلومات الصادقة وحالة من الشفافية الواجبة. فلماذا هذا الغموض وهذه الاستجابات البطيئة ومحاكمات علي التراخي, وكأن العدل من سماته أن يأتي متسكعا بعد سنوات ومن دون العدالة أن العدالة المتأخرة والعدل المؤجل هو ظلم بين. إن الشعب والشباب لابد أن يحسا بثمرة ثورته علي الأرض عاجلة غير آجلة, عادلة غير ظالمة, والعدالة الناجزة لابد أن تكون نتيجة آليات قادرة علي الوصول إلي أهدافها من أقرب طريق ومن كل طريق ولذلك الوسائل التي يمكن الارتكان إليها ليس هذا وقت البيان فيها. فجوة المعلومات آتية من المرسل الذي لا يرسل الكم الواجب من المعلومات للطرف المستقبل (الشعب والشباب) فتركه منها للحيرة والغموض, الذي يتطور إلي حالات القلق والتوتر والاحتقان ينعكس علي مناخ للإشاعة كل ذلك يورثه حالة متفجرة من عدم الاستقرار والاطمئنان وشيوع حالات الشك وعدم الثقة. وتبدو الأمور في بيئة تغذي ذلك من تصادم رؤي وحال استقطاب فكري وسياسي ومؤشرات انفلات أمني يطل برأسه كل حين ليقول أن الأمن لم يعد مرة أخري إلي ربوع مصر, وثغرات تستغلها الفلول من ثورة مضادة تتحرك لحماية مصالحها وقابليات للثورة المضادة فينا في شعب مصر, والخارج الذي يريد أن يجد طريقا يتسلل منه, ليؤكد القاعدة أن الخارج لا يتمكن من الداخل إلا بمقدار ما يمكن له الداخل, وفواعل من السياسين والمثقفين ليسوا علي مستوي المرحلة يتقدمون الصفوف ويستوطنون الفضائيات يقيمون فيها برامج تسمي TALKSHOW ليبعد عن فوضي المشهد السياسي الذي يوطن الوسط أي تدخل من الثورة المضادة من الداخل أو من الخارج. وتتحول حالة الاحتقان إلي حالة احتجاج وحالة الاحتجاج بدورها تتحول إلي حركة مطالبة, وحركة المطالبة تتحول في شكلها إلي عملية اعتصام, وصار الجميع يتحرك في المشهد بالضغط وتحت الضغط, وضمن حالة من فجوة المعلومات المتحولة بالعقل إلي أزمة ثقة. أما الثاني: فيتعلق بفجوة الآليات, وهي فجوة تنتج من جراء أن من بيدهم القرار والسلطة, وعملية التنفيذ بجناحيها (الجناح العسكري المتمثل في المجلس الأعلي للقوات المسلحة, والجناح المدني المتمثل في الحكومة ومجلس الوزراء المتعلق بعملية تسيير السياسات ومواجهة التحديات وإدارة الأزمات), من بيدهم القرار والسلطة متأخرون في استجاباتهم يعملون بقدر من التراخي الذي يشكل عناصر تفكير محتقن مرشح للانفجار. إن الكلام حول سياسات بدون آليات هو فائض كلام لن يؤتي أثرا ولن يبلغ هدفا, ولن ينتج فاعليه. الآليات هي مقدمات الواجب, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وجوب الآليات هو أمر من صميم نبل الأهداف وبلوغ المقاصد. ومن يقول أن المقاصد والأهداف تتحقق بذاتها فهو إما غافل عن معاني الوسائل التي لا يتم الواجب إلا بها, أو ماكر يحاول إضاعة الوقت وتمرير الأمر من دون عمل علي الأرض يترجم إلي ثمرة حقيقية في حياة الناس. الآليات جزء من وضوح الخطة ومؤشر علي حسن النوايا, وهي عنوان الكفاءة في مواجهة التحديات وإدارة الأزمات والوصول إلي الغايات. والتساؤل الحقيقي الذي يترتب علي ذلك يتأتي من حال عدم الثقة بين أطراف المربع الأربعة الذين يشكلون حماية الثورة ومكتسباتها واستمرارها, كيفما اتفق, لماذا يسود الخطاب الآن من أهل السلطة والحكم والذين يمثلون سلطة تنفيذية وحيدة في الميدان سمة الخطاب الذي يشكل فائض كلام لدينا عند العامة يقولون الكلام الساكت أي أنه كلام في حكم السكوت أو كلام مليان يعني ما يعني من سياسات واستراتيجيات وأعمال تؤتي أثرها علي الأرض وتترجم في مصلحة الناس والخلق. فتحول الكلام إلي فعل محقق ومؤثر. إن الفترة الانتقالية لم تعد تحتمل فجوة المعلومات أو فجوة الآليات لأن هاتين الفجوتين وصلتا في النهاية إلي حافة أزمة فاعلية مصحوبة بأزمة ثقة, وهذا وذاك سيفكك مربع حماية الثورة في أضلاعه الأربعة, وسيكون الأمر خطيرا ما استطاع المتربصون ان يفككوا هذا البنيان في إطار سيناريو يلوح في الأفق وهو أخطر المخاطر ألا وهو: صناعة الفراغ وصناعة الفوضي وهذا أمر سيكون محل اهتمامنا في مقال لاحق إن شاء الله: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم صدق الله العظيم.