معذرة للقراء الذين يتابعون كتاباتي حيث إن كثيرا مما سوف يأتي ذكرته في مقالات سابقة يعود بعضها إلي الثمانينيات; ومعذرة لهؤلاء القراء الذين لم يتابعونها, وربما لم يتابعون مقالات آخرين أيضا لأنهم كانوا مشغولين بمآرب أخري. فالحقيقة أن القضية مطروحة منذ وقت طويل سواء كانت علي النظام القديم, أو المعارضة السائدة طوال فترة حكمه, أو حتي الرأي العام, وثلاثتهم سار علي ما هو سائد, وعاش مع ما هو غالب. لكن الموسم الحقيقي للتعامل مع نظام الحكم في مصر. فقد كان خلال تلك الفترة التي سبقت التعديلات الدستورية بين عامي 2005 و2007 حيث كان موقفي المكتوب في الصحف, والمسموع والمشاهد في المحطات التليفزيونية الخاصة والعامة, يقوم علي نقطتين: الحاجة إلي دستور ديمقراطي جديد يعود بمصر إلي الحالة الطبيعية بين الأمم الحديثة دون إجراءات استثنائية أو تمييز بين المواطنين أو مؤسسات شاذة لا تعرفها دول العالم المعاصر. وعلي الجانب الآخر أن يحتوي هذا الدستور علي نظام جمهوري رئاسي ديمقراطي وليس نظاما برلمانيا علي الطريقة البرلمانية التي كانت سائدة في مصر قبل قيام نظام يوليو عام 1952 والذي ظل معنا بصور متنوعة حتي زواله الأخير. وقد شرحت موقفي من الدستور الجديد قبل ذلك مرارا وتكرارا, وخاصة في مقال الأسبوع الماضي, وحينما جاءت تعليقات القراء فقد كان من بينها أن النظام الرئاسي ما هو إلا صيغة أخري للنظم الفرعونية التي تتيح للرئيس سلطات فائقة تتيح له السيطرة والهيمنة واستعباد العباد بل وحتي التوريث كما جري في بلد عربي واحد علي الأقل. ولا يوجد قول أبعد من ذلك عن حقيقة النظام الرئاسي الديمقراطي كما تعرفه دول العالم المختلفة. فلا يمكن أن يكون فرعونا ذلك الرئيس الذي يقضي في الحكم فترتين رئاسيتين فقط لا تزيد أيا منهما علي أربع أو خمس سنوات علي أكثر تقدير. معني ذلك أن الأمر يعود للشعب بعد فترة رئاسية واحدة لكي يقرر عما إذا كان الرئيس قد أوفي بوعوده التي قطعها أثناء الحملة الانتخابية فإذا كان سائرا فيها, يكون له فترة أخري يستكمل ما لم يستكمل من برنامجه خلال فترة أخري وبعدها يعود إلي صفوف الشعب. وفي معظم النظم الرئاسية المحترمة فإن الرئيس لا يحق له الترشيح مرة أخري بعد الفترتين الرئاسيتين وأحيانا الفترة الرئاسية الواحدة ويصبح عليه أن يمارس الأمر العام من خلال حزبه أو بعرض تجربته من خلال مذكراته ومكتبته أو يقوم بالخدمة العامة للإنسانية كلها. الفرعون هكذا لا يمضي في الحكم حتي نهاية حياته; إلا إذا قضي الله ذلك أثناء فترة حكمه التي يعيشها تحت الرقابة الصارمة للسلطتين الأخيرتين في نظام الحكم وهما السلطة التشريعية والأخري القضائية. الأولي يجري انتخابها هي الأخري ولكن بطرق منفصلة ولمدد مختلفة عن رئيس الجمهورية; وبعد ذلك فإن لها حقوقا كثيرة عليه: أولها أنها تمسك بسلطة التشريع فلا يستطيع رئيس أن يمضي في تنفيذ برنامجه, وهو الشرط الرئيسي لبقائه رئيسا مرة أخري. ورغم أن للرئيس حق الفيتو علي تشريعات البرلمان فإنه يمكن للأخير أن يمرر تشريعاته بأغلبية خاصة. وثانيها أن البرلمان هو صاحب الولاية علي الأموال العامة, ولا يستطيع رئيس أن ينفق جنيها واحدا دون موافقة البرلمان, ومن ثم فإن ممثلي الشعب يمسكون بالمحفظة التي يتم منها الإنفاق ومن ثم فإن قدرتهم علي وقف تجاوزات الرئيس تكون فورا بحجب المال عنه. وثالثهما أن البرلمان لا يترك اختيارات الرئيس من الوزراء وأصحاب المناصب العامة, لهواه الشخصي, أو لأنصار حزبه, وإنما يتم ذلك بعد تصديق البرلمان في أعقاب جلسات استماع يجلس فيها المرشح أمام السلطة التشريعية لكي يضع مؤهلاته للمنصب, وخبرته الشخصية, وبرنامجه الذي سوف يسعي إلي تطبيقه. وفي الولاياتالمتحدة حيث يسود هذا النظام, فإن الكونجرس كثيرا ما منع المناصب عن وزراء للدفاع وقضاة للمحكمة الدستورية العليا. ورابعها المحاكمة حال قيام الرئيس بالخيانة العظمي أو جرائم حددها القانون حيث يضع البرلمان قائمة الاتهام ويحاكم الرئيس بأغلبية خاصة, وكان ذلك محتملا الوقوع مع كل من الرئيس ريتشارد نيكسون إلا أنه قام بالاستقالة قبل إحالته للمحاكمة, أما بالنسبة لبل كلينتون فقد تم الاتهام من مجلس النواب إلا أن الاتهام لم يحصل علي أغلبية الثلثين المطلوبة في مجلس الشيوخ ومن ثم بقي في السلطة حتي نهاية ولايته الثانية. وببساطة, وبالإضافة إلي قيود أخري, فإن الرئيس لايستطيع أن يتحرك بعيدا عن المجلس التشريعي. ولكنها ليست السلطة الوحيدة المقيدة لعمل الرئيس, فالسلطة القضائية تقوم هي الأخري بتقييد عمله, والحد من سلطاته. فرغم أن الرئيس هو الذي يقوم بتعيين قضاة المحكمة العليا ثم بعد ذلك يقوم البرلمان بالتصديق علي التعيين, فإن علاقة الرئيس بالقضاة تنتهي عند هذا الحد لأن القاضي يتم تعيينه مدي الحياة أو إلي المدي الذي يرغب فيه للبقاء علي المنصة. مثل هذا الوضع يجعل الرؤساء يجيئون ويذهبون بينما قضاة المحكمة العليا باقون في أماكنهم يفسرون القوانين ويضعون السوابق ويتأكدون من أن القوانين, وتطبيقها, يتماثل مع الدستور. وفي كل هذه الحالات فإن الرئيس لا يستطيع تجاوز حكما أو تفسيرا أو سابقة من أعمال المحكمة. الرئيس بعد ذلك ليس حرا حتي بعد تلك القيود الحديدية من السلطتين التشريعية والقضائية التي تجعل الفرعنة مستحيلة. ومع ذلك فإنه في مجتمع ديمقراطي فإن الصحافة وجماعات المصالح والمجتمع المدني كلها تمنع الطغيان وتجعله مستحيلا. ولكن إذا كان الرئيس مقيدا إلي هذه الدرجة فما هي إذن مميزات النظام علي غيره من النظم السياسية سواء كانت برلمانية أو برلماسية حينما يذيع وينتشر الاختلاط والتلفيق في جسد النظام السياسي كما هو الحال في فرنسا خاصة إذا ما كان الرئيس منتميا إلي حزب بينما كان رئيس الوزراء منتميا إلي حزب آخر لا يعرف في هذه الحالة عما إذا كان جزءا من الحكم أم من المعارضة. وأول المزايا هي الوضوح التام في المسئولية, فالرئيس هو المسئول عن السلطة التنفيذية بلا منازع, فلا توجد حكومات ائتلافية تجعل برنامج حزب الأغلبية موضوعا للتفاوض من الأحزاب الأخري ومن ثم موضوعا للتنازلات التي لا بد منها في حالات الائتلاف. هنا فإن الرئيس إما أن ينجح أو يفشل في تحقيق ما وعد به ناخبيه في برنامجه الانتخابي; وعلي أساسه يتم تقييم الرئيس عند الانتخابات العامة التالية. وثانيها أن شرعية قيادة الدولة واضحة, فلا ينازعها ملك, حتي ولو كان منتميا إلي مذهب الملكية الدستورية, أو رئيسا للجمهورية حتي ولو كان رمزيا شرفيا. الرئيس هنا هو القائد الأعلي للقوات المسلحة, ومن ثم يكفل السيطرة المدنية علي المؤسسة العسكرية في الدولة; وهو قائد السلطة التنفيذية المسئول عن نجاحاتها وكوارثها. هنا فإن الرئيس لا يستطيع الاختباء وراء رئيس الوزراء كما كان الحال في مصر طبقا لدستور عام.1971 وثالثها أن النظام يتمتع بقدر كبير من البساطة حيث رئيس الدولة هو مركز النظام السياسي, وهو رمزها في المحافل الدولية, حتي وهو تحت كل القيود التي أشرنا لها من قبل. ورابعها الاستمرارية لفترتين رئاسيتين كاملتين فلا توجد تلك الحاجة لحل البرلمان في حالة حاجة رئيس الوزراء إلي شعبية أكبر تجاه قضية بعينها; أو لأن المعارضة نجحت في الالتفاف عليه ودفعه دفعا إلي انتخابات عامة جديدة. وليلة قيام ثورة يوليو 1952 كانت الوزارة الرابعة في أقل من سبعة شهور قد جري تشكيلها, ولم يكن هناك ما يشير إلي أنها سوف تحقق ما فشلت الوزارات السابقة في تحقيقه. ولكن أهم مميزات النظام خامسها فهي الكفاءة والقدرة علي الإنجاز وتحديد الأهداف والطرق التي توصل إليها. وربما يعزي النجاح الأخير في دول أمريكا الجنوبية وشرق أوروبا إلي إتباعها النظام الرئاسي حيث الانتخاب المباشر لرئيس الدولة من قبل الشعب مصدر السلطات يعطيه الشرعية لكي يتخذ القرارات الصعبة دون مزايدة من أحزاب مشاركة في الحكومة, أو حتي من خارجها حيث تجري الدعوة المستمرة إلي عقد انتخابات جديدة. مثل ذلك يخلق حالة من عدم الاستقرار السياسي والتنفيذي ويقلل من كفاءة الدولة خاصة إذا كانت من الدول النامية التي لا تستطيع أن تتمهل طويلا في مساجلات وشجارات حزبية تجعل الانطلاق صعبا وإن لم يكن مستحيلا. ويبدو ذلك ذا أهمية قصوي بعد ثورة25 يناير والعقد التالي لها حيث ستكون مصر مزدحمة بالأحزاب الكثيرة والمتعددة والتي بالضرورة سوف تفتت الكتل الانتخابية وتجعل الحصول علي أغلبية قادرة علي تنفيذ خطط التنمية مسألة في غاية الصعوبة. أعلم أن ذلك ليس كل مزايا النظام الرئاسي, وأن الفقهاء سوف يجدون دوما فوائد في النظام البرلماني, كما أن هناك من سوف يشير إلي أنه في كل الأحوال هو النظام الذي عرفناه في السابق خاصة بين فقهاء القانون والدارسين. ولكن ذلك في الحقيقة يضيف سببا آخر لأن فشل هذا النظام كان راجعا في جزء منه إلي تنازع الشرعية بين الملك ورئيس الوزراء خاصة صاحب الشعبية مصطفي النحاس حيث باتت البلاد تتنازعها الشرعية التاريخية للأسرة العلوية, والشرعية الانتخابية من الشعب التي كان يحصل عليها حزب الوفد في كل الانتخابات العامة. وكانت النتيجة أن الحزب الحائز علي الأغلبية لم يحكم إلا لسبع سنوات فقط وبعدها انهار النظام. لا تقيموا نظاما آخر ينهار مرة أخري!. المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد