وسط صخب الكلام ومنازلات المجادلات (الفكرية والفقهية الدستورية السياسية) تزداد حيرة المرء كلما زاد سماعه وكثر الجدل أمامه الأمر الذي يحتم ضرورة تناول هذا الموضوع الحيوي المهم حول جدلية الدستور الجديد المزمع وضعه ليحكم مستقبل البلاد بعد الثورة. وحيث اتخذ الجدال عنوانا (الدستور قبل الانتخابات أم الانتخابات قبل الدستور) ورغم أن هذا العنوان صحيح إلا أنه في الحقيقة ليس صريحا إذ إن حقيقة المسألة هي (من سيضع الدستور). فهذا الفريق الذي يدعو الي (الدستور أولا ثم الانتخابات) حقيقة دعواه ألا تكون الجمعية التأسيسية لوضع الدستور منتخبة من مجموع الناخبين من الأعضاء المنتخبين من أعضاء مجلسي الشعب والشوري علي النحو الذي تضمنته التعديلات الدستورية الأخيرة. بينما يري الفريق الآخر (الذهاب الي انتخابات مجلسي الشعب والشوري ثم انتخابات الجمعية التأسيسية لوضع الدستور) يري أن هذا (هو بعينه) ما ذهبت اليه التعديلات الدستورية والتي وافق عليها الشعب بنسبة 77.2% ومن ثم يتعين احترام إرادة الأمة. ولما كان الأمر كذلك فإنه تعين التأصيل العلمي والمنطقي الصحيح للمسألة, فالفريق الذي يطالب بالدستور أولا يحاول في الحقيقة الخلاص من الالتزام بالإرادة الشعبية ويري أنها غير واجبة ويذهب لتبرير ذلك مذاهب شتي: فتارة يري: أن هذه التعديلات الدستورية كانت علي دستور سقط بقيام الثورة ومن ثم فهي جاءت علي ميت ولا محل لها بدليل أنها تحمل ذات أرقامها في الدستور السابق وأري أن هذا الذي ذهبوا اليه مع كامل احترامي وتقديري ليس في مجمله صحيحا ولا حتي في محله إذ إن التعديلات الدستورية التي أجريت كانت استنادا الي الإعلان الدستوري الصادر في 13/2/2011 استجابة الي المشروعية الثورية التي أسقطت النظام السابق وبمقتضي المشروعية الثورية تسلم المجلس الأعلي للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد مؤقتا. ولما كان الإعلان الدستوري سالف البيان قد نص في مادته الأولي علي تعطيل العمل بالدستور (وليس إسقاط الدستور) ثم نص في المادة 5 علي تشكيل لجنة لتعديل بعض مواد الدستور. وإعمالا للقاعدة القانونية القاضية بأن (إعمال النص أولي من إهماله) يتعين إذا قراءة النصين معا ويبني علي تلك القراءة فهم مؤداه: (يعطل العمل بالدستور الصادر عام 1971 بمعني وقف العمل بأحكامه عدا المواد التي تعدل اذا وافق الشعب عليه لدي الاستفتاء عليها). ومقتضي ذلك ولازمه أنه اذا وافق الشعب علي المواد بعد تعديلها اكتسبت هذه المواد بذاتها شرعية دستورية مستمدة من موافقة الشعب عليها (بغض النظر عن إعمال باقي مواد الدستور السابق تعطيلها أو إسقاطها). وإذا رفض الشعب الموافقة عليها لدي الاستفتاء عادت إلي مكانها في الدستور المعطل وتضحي من ثم معطلة شأنها شأن غيرها من بقية المواد وليري المجلس الأعلي للقوات المسلحة ما يراه بشأن الدستور المعطل كله (سواء أكان ذلك القرار الذي يراه العودة الي إعمال أحكام الدستور المعطل الي حين وضع دستور جديد أو تعيين هيئة تأسيسية لوضع دستور جديد أو الاكتفاء بالإعلان الدستوري المؤقت سالف البيان والذهاب الي الانتخابات مباشرة ثم انتخابات جمعية تأسيسية لوضع الدستور الي غير ذلك من الخيارات المتاحة). وكانت كل الاختيارات متاحة ولذلك ولسبب بسيط يتحصل في عدم وجود طرح بديل محدد ومنصوص عليه فيما لو قال الشعب في الاستفتاء (لا). ولا ينال من ذلك أن هذه التعديلات جاءت بذات أرقامها في الدستور المعطل لأن ذلك من قبيل الجدل النظري الذي لا يترتب عليه أثر في الموضوع باعتبار مضمون النصوص. وفي جميع الأحوال وايا ما كان وجه الرأي فإنه هكذا عرض الأمر علي الشعب وهكذا وافق عليه بنسبة 77.2% من مجموع المشاركين في الاستفتاء, ومن ثم تكتسب هذه التعديلات مشروعية شعبية وسياسية وقانونية خاصة لا تعلوها شرعية أخري. المحامي بالنقض وعضو لجنة تعديل الدستور