في الذكري الحادية عشرة لوفاة المفكرة الإسلامية عائشة عبدالرحمن, كتب الدكتور ماهر حسن كلمة رائعة, لخصت في سطور سيرة من أحفل السير, لا مرأة من أفضل النساء. ولأن للراحلة عندي ما أرجو أن يكون في ميزانها عند الله إن شاء الله لم يكن بد من هذا الحديث, حديث الذكريات: في أواخر الستينيات من القرن العشرين بدأت عنايتي بأبي العلاء المعري, حيث سجلت لدرجة التخصص الماجستير, في كلية اللغة العربية بالقاهرة, موضوعا في نقده بعنوان:النقد الأدبي عند أبي العلاء المعري, ولأنه لا معدي في البحث, أي بحث مع الاستقراء لمصادره من الاستشارة للسابقين في مجاله كان ما كان من زيارتي لغير واحد من هؤلاء, الذين منهم: بنت الشاطئ, وشوقي ضيف, وشكري عياد وإبراهيم الإبياري, وطه حسين, رحمهم الله. وقبل عنايتي بربع قرن أو أكثر, كانت عناية الدكتورة عائشة بأبي العلاء, حيث قرأت رسالة الغفران وغيرها وهي طالبة بقسم الليسانس الممتازة سنة1938, ثم حصلت علي الماجستير بدراستها:الحياة الإنسانية عند أبي العلاء سنة1941, ثم حصلت علي الدكتوراه بدراستها الغفران لأبي العلاء المعري: دراسة نقدية سنة1950 بعد أن حققت الرسالة رسالة الغفران, التي نشرت أيضا سنة1950. لهذا التخصص الدقيق كانت الزيارة لبنت الشاطئ أواخر العام الدراسي1966, وكان اللقاء في مكتبها بكلية البنات جامعة عين شمس حيث عرفتها ما أنا بصدده من دراسة لنقد أبي العلاء, عنوانها:النقد الأدبي عند أبي العلاء المعري, فسكتت قليلا ثم قالت: ينبغي أن يكون العنوان:أبوالعلاء الناقد الأدبي فقلت:ما الفرق بين العنوانين؟, قالت في اعتداد خفيف ولطيف:هذا مشيخة.. ثم إني بعد أيام لقيت في الكلية كلية اللغة العربية أستاذي الذي صار رئيسا لقسم النحو, فضيلة الشيخ محمد عبدالخالق عضيمة رحمه الله, فسألته عن العنوان الثاني أبوالعلاء الناقد الأدبي, فتبسم وقال: هذا من وصف الصفة, وهوجائز, ثم لم يكتف بذلك, بل وجدته في اللقاء التالي يعطيني ورقة صغيرة, فيها توثيق لما قال بالبيان لمصدره, وهو همع الهوامع للسيوطي ج2 ص118. ولئن كنت قد صرفت عن البحث نحو عام, لقد عدت إليه بعد أن حصلت بغيره علي درجة التخصص متخذا إياه الموضوع لدرجة العالمية الدكتوراه, لكن بالعنوان الثاني, عنوان بنت الشاطئ:أبوالعلاء الناقد الأدبي, الذي لم أوثره لمجرد التصويب النحوي من شيخنا عضيمة, بل لما بينه وبين الأول فيما بدا لي: أما الأول:النقد الأدبي عند أبي العلاء المعري, فكأننا فيه بصدد الرأي والكم, رأي أبي العلاء في النقد الأدبي, مع الجمع والحصر لما في أماليه من هذا النقد, وإذا كان الكم علي هذا النحو ليس من مقاصد الدراسة, فإن الرأي في النقد بخلوها منه قد خرج من المقاصد أيضا. وأما الثاني: أبوالعلاء الناقد الأدبي, فكأنه نص فيما أنا بصدده, لأنه يعني التعريف بالناقد الأدبي في أبي العلاء, تعريفا يتوخي الجمع لنقده كذلك, لكن ليس للإحصاء كما في الأول, بل لتبين ما في هذا المجموع من آراء وخصائص, مع الدلالة علي مدي أهلية صاحبه للنقد من جهة, وعلي ما بين نقده وأدبه من جهة أخري. تري أكان الفرق بين العنوانين هو ما ذكرته, وإن لم تصرح به بنت الشاطيء, لأنها من الشيوخ شيوخ المعرفة الذين إذا رأوا رأيا أو قضوا قضاء لا يسألون عن سببه, كما يبدو من قولها الثاني:دا مشيخة؟. أم أن الفرق هنا مما لا تؤديه الصفة, علي حد قولهم من قديم:إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة, ولا تؤديها الصفة, أي إن من المدركات ما يعرف ولا يستطاع وصفه, لما فيه من دقة لا يتيسر بالبيان وصفها وتعليلها؟. أيا ما كان, فإن ثمة فرقا يشهد للعنوان الثاني ولصاحبته, من حيث كان عنوانها هو الأدق, وهو المناسب, وبه أوفت علي الغاية في الذوق, وفي الصدق, وفي الالتزام. أما قولها:دا مشيخة بأي الذي جعلته مكان التعليل, وتعبيرا عن مكانها بين الشيوخ, إذ كانت في الثالثة والخمسين, أو تعبيرا عن إدراكها لما لا يستطاع وصفه وتعليله من الأحكام النقدية. أما هذا القول الذي جاء بلغة التخاطب المصرية لما كررت عليها السؤال ففيه حذف, لأن دا أي هذا إشارة إلي الحكم الذي سألتها عن علته, ومشيخة: أحد جموع شيخ كما في القاموس, والتقدير: هذا الحكم الذي تسأل عن علته حكم الشيوخ, الذي لا يحاط بعلته, أو الذي لا يسأل أصحابه التعليل. وأما المسمي بعنوانها وهو البحث الذي طبع بهذا العنوان مرتين فما أظنه كان سيأتي بالعنوان الأول علي هذا النحو من النظر: إلي المكونات للناقد الأدبي في أبي العلاء ثم إلي مصادر نقده وأدبه, ثم إلي اتجاهات نقده وخصائصه, ثم إلي ما بين نقده وأدبه, ثم إلي نقده في آثار الدارسين, وكأن العنوان الثاني هو الذي قاد إلي هذا النظر أو إلي أكثره, فشكر الله لصاحبته, وجزاها خير ما يجزي الصادقين المخلصين.