كتب - هاني عسل : قبل حرب العراق, كانت هناك تحذيرات من أن' مافيا' تجارة الأدوية العالمية تريد إنعاش صناعتها, وأن الطريق الوحيد لتحقيق ذلك هو إشعال حروب هنا وهناك, فكانت البداية في أفغانستان, ثم العراق, وكادت تتبعها إيران في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش. ونذكر جيدا النداءات والتحذيرات التي أطلقها الدكتور ماتياس راث عبر وسائل الإعلام العربية والعالمية للتحذير من طغيان مصالح' كارتل' شركات الأدوية العالمية علي مصلحة البشرية, إلا أن أحدا لم يستجب. وفي أجواء الأزمة المالية العالمية الحالية, تضررت صناعة السيارات, والمؤسسات المالية, والبنوك, والصناعات البترولية بدرجة كبيرة, وقيل إن صناعات الأدوية كانت الأقل تضررا بفضل' البعبع' أو فلنقل' المنقذ', فيروس' إتش1 إن1' المعروف باسم إنفلونزا الخنازير, حيث كان المصل الواقي منه والدواء الشافي له, والأدوية المرتبطة بأمراض الإنفلونزا بصفة عامة هي الدجاجات التي تبيض ذهبا لصناعات الأدوية وأنعشت خزائن شركات إنتاج العقاقير والأدوية في خضم الأزمة التي لا ترحم! لقد' لمحت' بعض الأصوات إلي أن الصناعات الدوائية علي مستوي العالم هي التي لجأت إلي' حيلة' إنفلونزا الخنازير من أجل إنعاش خزائن شركات الأدوية في زمن الأزمة, تماما مثلما كانت هناك تحذيرات قبل غزو العراق من أن الحرب ستكون في صالح ثلاثة قطاعات رئيسية: أولها صناعة الأدوية, والثاني تجارة السلاح, والثالث شركات الأمن الخاصة. ومن جانبها, أنكرت منظمة الصحة العالمية علي الفور احتمال تأثرها المبالغ فيه بشركات الدواء لتضخيم خطورة مرض إنفلونزا الخنازير, وهو ما تسبب في فوز شركات الدواء بالحصول علي عقود لتصنيع اللقاحات بملايين الدولارات, قبل أن يثبت أن المرض أخف وطأة مما كان يخشاه خبراء الصحة في البداية, لتعود إلي الأذهان تحذيرات الدكتور راث وبياناته النارية التي كان من بين ما قال فيها إن' أرباح شركات الأدوية تضاعفت في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة بنسبة500% مقارنة ب200% كمعدل متوسط للصناعات الأخري.. وبعبارة أخري يعد الاتجار بالمرض من أفضل الصفقات التجارية علي مستوي العالم'! فهل صحيح أن الصناعات الدوائية كانت أقل تضررا من الأزمة؟ وهل كان فيروس إنفلونزا الخنازير فعلا هو المنقذ لشركات الأدوية؟ وأن زوال' الوهم' من تفشي هذا المرض قد يجعل الشركات عرضة لمواجهة آثار سلبية تفوق في خطورتها التأثيرات التي واجهتها شركات صناعة السيارات مثلا؟ الواقع أنه يتعين علينا أولا أن نتفق علي أن التأثيرات السلبية للأزمة المالية العالمية علي صناعات البترول والبنوك والمال والسيارات يجب أن تظل في معزل أو هي كذلك بالفعل عن التأثيرات علي قطاع الصناعات الدوائية, والذي تبلغ حجم تعاملاته عالميا أكثر من300 مليار دولار, وتسيطر الولاياتالمتحدة وأوروبا علي60% منها. فحيوية صناعة الدواء وأهمية مواصلة تدعيمها لمواجهة الآثار السلبية التي قد تواجهها نتيجة للأزمة المالية العالمية ليست محل نقاش, ولا يمكن التعامل معها بنفس الطريقة التي يتم بها التعامل مع الصناعات الأخري, فعلي سبيل المثال, فإن إجراءات الدعم والخفض الضريبي وتشجيع الاستثمارات وتوفير السيولة والتمويل اللازم لخدمة الصناعات الدوائية أمور لا مفر منها من أجل حياة الإنسان قبل أن يكون ذلك من أجل إنقاذ قطاع مهم من الصناعة. والإجراءات التي اتخذتها دول عديدة لإنقاذ صناعات السيارات والمؤسسات المالية لديها يجب أن تأتي في مرتبة تالية علي الاهتمام بإجراءات الحفاظ علي الصناعات الدوائية, لأن إهمال هذا القطاع يعني آثارا مدمرة علي حياة البشرية, ولا جدال في أن الدواء أكثر أهمية لحياة الإنسان والأمم من السيارة أو البنك. ومنذ بداية الأزمة العالمية, وصناعة الأدوية متأثرة بثلاثة عناصر مهمة: الأول هو ضغوط الأسعار, والثاني هو ضغوط القوانين المنظمة لهذه الصناعة, والثالث هو الضغوط الناجمة عن استبدال الأدوية والعقاقير الجديدة بالأدوية المنتهية صلاحية تراخيصها والتي تقدر قيمتها بنحو30 مليار دولار. وكانت هناك مظاهر أو مجالات عديدة للآثار السلبية علي صناعات الدواء, فكان هناك تأثير علي تمويل البحث العلمي أثر بدوره علي ما يسمي ب' الإبداع' أو' الابتكار' الدوائي, وكان هناك تأثير علي نشاط الأسواق, وتأثير علي الاستثمارات التي يتم ضخها في الاستثمارات الدوائية, وعلي صدور التراخيص بشأن الأدوية الجديدة, وهو تأثير مرتبط بالأثر الأول, وكان هناك أيضا تأثير علي الهياكل التنظيمية للشركات نفسها. وفي ظل معاناة شركات الأدوية من بعض تداعيات الأزمة, فإن السائد حاليا هو تدخل حكومات الدول للحد من تأثيرات الركود الاقتصادي علي صناعات الأدوية, باعتبار أن هذا الأمر ذو أولوية بالنسبة لحياة الإنسان بعكس الصناعات الأخري كالسيارات والبترول والبنوك, وإذا استمر الوضع علي ما هو عليه, فإن الأسواق الدوائية في العالم ستواجه مشكلة تناقص أعداد وكميات الأدوية الحديثة في غضون خمس أو ست سنوات. ولهذا, فإن الحكومات عليها أن تحرص علي زيادة الاستثمارات وتوفير السيولة المالية في قطاع الصناعات الدوائية من أجل دعم إنتاج الأدوية الأحدث والأكثر تطورا وملاءمة للأمراض المزمنة, وذلك عن طريق تمويل الأبحاث العلمية في هذا المجال, باعتبار أنه لا يوجد ما يشجع المستثمرين علي ضخ استثماراتهم في قطاع غير مأمون كهذا, ويفضلون الاستثمار في القطاعات الأكثر ربحية مثل البترول والتعدين. إذن, فالصناعات الدوائية تأثرت بالفعل كثيرا من جراء هذه الأزمة, هذه حقيقة, ولكنها قادرة علي الخروج من الأزمة دون خسائر كبيرة, إما بفضل الطبيعة الحساسة لهذه الصناعة وارتباطها بحياة البشر, أو بسبب حصول هذه الصناعة علي أولوية في قائمة الاهتمامات الحكومية خلال فترة الأزمة, أما' حكاية' وجود مصالح واستراتيجيات خفية, فهذه يصعب إثباتها, وتتوقف علي ضمائر القائمين علي هذه الصناعة أنفسهم.