يتجه ملايين الأتراك غدا إلي صناديق الاقتراع لإختيار برلمان جديد وحكومة تشير الاستطلاعات إلي إنها قد لا تكون جديدة كل الجدة, ورغم ذلك ستكرس النتائج المحتملة لمرحلة ستكون مفصلية في الحياة السياسية. فإذا أنفرد العدالة الحاكم بالسلطة ستنقل الجمهورية من مرحلتها الكمالية التي تم تآكل بعض من أركانها طوال السنوات العشر الماضية, إلي أخري بصياغة أردوغانية كاملة. وفي حال زاحمه الشعب الجمهوري المعارض هنا ستكون بداية تراجع سطوة العدالة والتنمية, تقابلها عودة جديدة متدرجة للجمهورية دون جنوح مفرط من علمانية تقصي قوي اجتماعية فاعلة, وتقف حائلا ضد الحريات الشخصية للمواطنين. وهذا يعني أن تركيا أمام خيارين لا ثالث لهما: فأي منها سيتجه اليه الناحب التركي ؟ لكن المتابع للتطورات التي شهدها ويشهدها الأناضول مطالب بأن يخمن من سيحكم هذا البلد الموصوف عن حق بالجسر العتيد بين الشرق والغرب؟ الزخم الهائل الذي يحيط بالمصباح شعار العدالة وغير المتكافئ مقارنة بالقوي الحزبية المتنافسة يقول إن الحاكم القابض علي مقاليد الأمور هو القادم بلا منازع, غير أن قراءة متأنية لشواهد ربما رأت غير ذلك. بعبارة أخري ثمة منافس سيزاحم ألا وهو الشعب الجمهوري بيد أنه سيظلل الضوء الابيض بشعاره ذي السهام الست الحمراء والاسباب أو المبررات ترصدها السطور التالية. في الانتخابات يمكن أن تحدث مناوشات وتراشق هنا وهناك وربما تصل حدة التنافس إلي تشابك بالأيدي, لكن أن تتواري وعلي نحو مؤسف القيم والمعايير الإخلاقية فهذا أمر يدعو إلي الدهشة والأسي معا, خاصة أنه حدث في مجتمع يتمتع بالديمقراطية حتي وأن لم تكن متكملة فهي علي الاقل تجاوزت الحد الادني مقارنة بجوار قريب أو بعيد علي السواء. قد توجه سهام النقد للمعارضة لسلوكياتها, لكن المسئولية ستكون مضاعفة علي كاهل الحزب الحاكم, فالاخير وبما أنه القدوة وصورة البلاد, كان عليه ضبط النفس, لكن يبدو أن الحاصل بدا هو العكس, ليس ذلك فحسب بل كان هو البادئ المتنمر, وها هو زعيمه الذي يفتخر دائما وابدا, بأنه إمتداد تقاليد الاناضول المحافظة الرصينه, فضلا عن أنه تلقي بكل فخر وأعتزاز تعاليمه من مدارس الدين الحنيف المعروفة باسم إمام خطيب, راح في أحد لقاءاته الخطابية بمدينة كونيا التي تبعد عن أنقرة300 كيلو متر باتجاه الجنوب يتفوه بألفاظ يعف عنها اللسان, لاصقا إياها بخصمه كمال كيلتش دار أوغلو زعيم الشعب الجمهوري.ولأنه لا يطيق النقد سخر من صحفية تعمل بجريدة ميلليت أوسع الصحف انتشارا, متعجبا ماذا يناديها ومتسائلا من كتب هل هو رجل أم هي سيدة, كون ان مقطع من أسمها مشترك بين الجنسين رغم أنه يعلم أنها إمراة والهدف واضح ألا وهو التقليل من شأنها, ولأن لقبها هو ميرت ومعناه باللغة التركية شجاع إلا أن الطيب نعتها بالنقيض أي جبانة. ويستمر مشهد تقزيم الآخرين ليطال حزب الحركة القومية اليميني وفي هذه المرة لم يخرج من دائرة السباب فقط أخذ شكلا سبق أكثر فضائحية. فقد استقيظ مريدوه علي هزة مدوية تمثلت في بث شرائط فيديو مخلة طالت رموز كبار من الحزب وهو ما دفعهم إلي تقديم استقالاتهم وسحب ترشيحهم من الانتخابات, ورغم أن وقائعها تعود إلي سنوات مضت إلا أن إختيار بثها عبر الشبكة العنكبوتية جاء في توقيت عاصف, وإنطلاقا من نزعة ميكافيللية خالصة كان الهدف جليا وهو القضاء علي فرص الحزب الباقية في تجاوز حاجز ال10% المقرر للتمثيل بالبرلمان. لكن أجواء برجماتي فلورنسا الشهير نيقولا ميكافيللي في القرن السادس عشر ليست هي ذاتها التي تعيشها أسطنبول العامرة في الالفية الثالثة والدليل علي ذلك هو أن فضائها علي قناعة تامة بأن ما مس الحركة القومية لا يمكن أن يأتي دون تدبير محكم ومدعوم ممن لهم مصلحة في إقصائه, لكن الرياح لم تأت بما تشتهي به السفن, فما كان مقصودا أن يجلب العار إنقلبت نتائجه في صالح أصحاب الذئاب الرمادية, القوميون العتاد, بيد أنهم كسبوا تعاطف شرائح من المواطنين الذين نددوا بتلك الممارسات الرخيصة والتي أقحمت في سيجال يفترض أن ينأي عن التجريح أوالمساس بالحريات الشخصية. لكن المعارضة من جانبها لم تكن معصومة فقط كانت أقل إبتذالا مركزة علي إتهامات حتي لو كانت غير صحيحة إلي أن إطلاقها أمرا يمكن تفهمه في سياق صراع شرس علي التهام القدر الأكبر من الكعكة التصويتية خصوصا الكتلة الصامتة منها وهي ليست بالقدر الهين من هذه التشنيعات المغرضة وان كانت تلقي ظلالا من الصحة تلك التي دعت زورا وبهتانا أن ما يدعي تمسكه بالتقوي والورع وهو في الحقيقة لا يخاف ربه كونه يبتلع اموال الشعب واليتامي والفقراء ليوزعها لمن سوف يصوت لحزبه! ولن تكتمل الاسباب التي يعتقد ساردها إنها كفيلة بحدوث تراجع ولا تقدم, دون التوقف عند القبض علي أحد رموز المؤسسة العسكرية قبل أيام علي خلفية الانقلاب المزعوم الذي لم يصدر حكما واحدا ضد الضالعين فيه رغم أن معظمهم تم إعتقالهم قبل أكثر من سنتين. خطورة ذلك الحدث أنه يشكل سابقة في مسيرة البلاد وهي القبض علي جنرال قيادي مازال في الخدمة, وإستمرار اردوغان الذي يحلم بأن يدشن الاحتفال بمئوية الجمهورية بعد أثنتي عشرة سنة من الآن وفي ظل سيطرتة علي المفاتيح الأساسية للسلطة القضائية التي بات قضاتها أحرار مستقلون بعد ان كانوا في عهود بائدة مسيسون علمانيون متطرفون فسبحة الجيش معرضة لمزيد من الانفراط والحجة معروفة سلفا وهي التأقلم مع الاتحاد الأوروبي في حين أن الأخير من المستحيل أن يقبل تركيا طالما ظلت في كنف رجب طيب اردوغان سواء كان رئيسا للحكومة أو الدولة في مرحلة لاحقة. بعد كل هذا هل يمكن أن يكتسح العدالة غدا وبالتالي إحتلاله المرتبة الاولي منفردا بلا شريك؟ الإجابة قد تكون بنعم, لكن هنا حتما سيكون للاتراك السبق في تبني تعريف لديمقراطية من صنعهم وهو ليس المتعارف عليه في القارة الاوروبية التي كانت فيما مضي سدرة منتهي مصطفي كمال اتاتورك.