مطاردة أشباح الطاغية الطاغية الألماني أدولف هتلر لاتزال أشباحه تؤرق نخبة من المثقفين والمؤرخين, برغم هزيمة ألمانيا الساحقة في نهاية الحرب العالمية الثانية, وانتحار هتلر في ابريل.5491 وانبثاق ألمانيا جديدة من رماد تلك الهزيمة. وليس أدل علي ذلك المعني من أن دراسات ومقالات وكتب عديدة تنهمر, دون انقطاع, في أسواق النشر وفي أعمدة الصحف والمجلات بقصد الرغبة العارمة في طمس التراث الحالك السواد لهتلر ونظامه النازي. ويحظي هذا النوع من الدراسات باقبال القراء. ولعل أحدث كتاب صدر في هذا السياق, هو كتاب مثير عنوانه: تعويذة ضد هتلر.. فترة احتلال ألمانيا واجتثاث النازية فريدريك تيللور(4 ابريل1102) ولعل نقطة البداية الجديرة بالتأمل في هذا الكتاب هي ذلك الجدل السياسي الذي احتدم بين أمريكا وبريطانيا بشأن تحديد مستقبل ألمانياالغربية عقب هزيمة هتلر وانتحاره. ذلك أن ألمانياالشرقية كانت قد سقطت في قبضة الاتحاد السوفييتي, ومن ثم حدد الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين مصيرها عندما حولها إلي دولة شمولية شيوعية تدور في الفلك السوفييتي. أما أمريكا وبريطانيا فقد تباينت وجهات نظر كل منهما بشأن المسار الجديد لألمانياالغربية. فقد كان بعض السياسيين الأمريكيين يروجون لفكرة مفاداها أن تبقي ألمانياالغربية مجتمعا رعويا وفلاحيا علي غرار مجتمعات القرون الوسطي. ومعني هذا ألا يسمح لها بانشاء مصانع جديدة, بحيث لا تتمكن من استعداده قدراتها العسكرية. وهذا هو السبيل الأمثل لعدم تهديد جيرانها في المستقبل. بيد أن هذه الفكرة أو الخطة لم تصمد طويلا وسرعان ما تم التخلي عنها. وحل محلها مشروع دعم القدرات الاقتصادية لألمانياالغربية عبر مشروع مارشال وقد زود هذا المشروع جمهورية بون الألمانية الغربية التي تأسست عام7491 بزعامة المستشار الألماني كونراد أديناور بمساعدات مالية تقدر بنحو4.1 مليار دولار في الفترة من8491 وحتي.2591 المعجزة الاجتماعية وهكذا, تمكنت جمهورية ألمانيا الاتحادية من أن تصبح قوة اقتصادية مؤثرة. وحققت ما يطلق عليه المعجزة الاقتصادية وهي معجزة انطوت, في ذات الوقت, علي تحقيق معجزة اجتماعية, تتمثل في ارساء نظم التكافل الاجتماعي بين المواطنين دون تفرقة أو تمييز. وهذه مسألة تستحق التريث أمامها ومحاولة تفهم أبعادها. ذلك أن الآباء المؤسسين لألمانياالغربية ابتدعوا نظاما اقتصاديا واجتماعيا متميزا وفريدا فقد أصر المستشار الألماني أديناور علي رفض الرأسمالية الأمريكية الجامحة. واعتمدت ألمانياالغربية نظاما اقتصاديا واجتماعيا يرتكز علي محورين متلازمين هما حرية السوق الاجتماعية والتكافل الاجتماعي وأطلقوا عليه مصطلح الاقتصاد الاجتماعي الحر. وفيما يتعلق بالتكافل الاجتماعي, فقد استهدف النظام الجديد ترسيخ ودعم أسس دولة الرفاة الاجتماعي, بقصد تعزيز شبكة الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية للجميع دون تمييز أو تفرقة. وهنا ينبغي الاشارة إلي أن النظام الألماني الجديد كان يتوخي أساسا تحقيق العدالة الاجتماعية كوسيلة فعالة لدرأ مخاطر احتمالات عودة الطاغية. ذلك أن هتلر تمكن ضمن أسباب أخري, من استغلال الأوضاع الاقتصادية المتردية وانتشار البطالة في اختطاف السلطة في البلاد عام3391, وفجر الحرب العالمية الثانية التي انتهت بتدمير ألمانيا وتقسيمها إلي شطرين: ألمانياالشرقية, التي خضعت للسيطرة السوفييتية, وألمانياالغربية التي أنضمت إلي المعسكر الغربي. وقد ظل وضع الألمانيتين قائما حتي اجتاحت الثورات الديمقراطية أوروبا الشرقية, واجتاز الثوار الألمان في ألمانياالشرقية سور برلين في9 نوفمبر.9891 وهو ما أدي إلي توحيد شطري ألمانيا. اجتثاث النازية وعند هذا الحد يتطرق المؤرخ فريدريك تيللور إلي مسألة اجتثاث النازية وملاحقة النازيين. ويشير إلي أن القوي الغربية كانت أقل يقينا بشأن مخطط محدد لمعاقبة النازيين والبحث عن الألماني الطيب والصالح الذي يمكن تأهيله لحكم البلاد. ويوضح تيللور أن السياسات الغربية اتسمت بالواقعية بعد محاكمات نورنبرج التي حاكمت كبار النازيين المتهمين بارتكاب جرائم حرب, ويشير إلي أن البريطانيين كانوا أكثر عملية فقد اقلعوا بسرعة عن البحث عن النازيين باستثناء المتورطين منهم في جرائم ضد الإنسانية. أما أمريكا فقد أعلنت ببلاغة أنه لن يوجد ملاذ آمن للنازيين غير أنها استعانت بالعلماء الألمان الذين برعوا في اختراع الصواريخ وكانوا مقربين من هتلر!! ويشير المؤلف بوضوح قاطع إلي أن الأمر انتهي بترك ألمانياالغربية لتطهر نفسها ومجتمعها الجديد من آثار النازية. وقد تمكن النظام الألماني الجديد من النجاح في ذلك. وفي نهاية المطاف أصبحت النازية وحتي ظاهرة النازيين الجدد مجرد هامش لا يعتد به ولا ينطوي علي أي تأثير ملموس علي مجري الحياة الألمانية. ومعني هذا أن النظام الألماني الذي ارتكز علي الديمقراطية ودولة رفاة الاجتماعي تمكن باقتدار من تهميش ظاهرة النازيين الجدد. ولكن لا بأس من تضافر جهود المثقفين والمفكرين في الاستمرار في مطاردة أشباح الطاغية ونظامه النازي الذي قوضته الهزيمة في الحرب العالمية الثانية. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي