لم يكن مؤتمر مجمع اللغة العربية الذي اختتمت أعماله في يوم الاثنين الماضي, كغيره من المؤتمرات السابقة, فقد كان يرفع في هذا العام شعار: اللغة العربية ومؤسسات المجتمع المدني. وبالرغم من أن موضوع المؤتمر قد سبق تحديده منذ أكثر من ستة أشهر, إلا أن مواكبته لوقائع ثورة الخامس والعشرين من يناير جعلت له مذاقا خاصا, ونفخت في عروقه روحا جديدة, وتوهجا من طراز فريد. واختلفت نظرة المجمعيين العرب المشاركين في المؤتمر, والمستعربين الأوروبيين القادمين للمشاركة إلي زملائهم المصريين الممتلئين بمشاعر الحرية والعزة والكرامة, وزهو إسقاط النظام القائم علي القهر والفساد, والتطلع إلي غد حافل بالوعود, يحمل إلي الإنسان في مصر وفي الوطن العربي كله زمنا جديدا يتألق فيه اللسان العربي بأثمن ما يمتلكه من ذخيرة حية متجددة, ويتوهج فيه الإبداع الثقافي والحضاري, بكل ما من شأنه تحقيق النهضة المرجوة, وحفز الهمم في مجامعنا اللغوية العربية جميعها. وكأنما كان المجمع علي موعد مع شباب الثورة وهو يختار مؤسسات المجتمع المدني العاملة في مجال اللغة العربية موضوعا لأبحاثه ودراساته ومناقشاته علي امتداد جلساته العلمية المغلقة وجلساته العامة المفتوحة لجمهور المشاركين, وعلي مدي أسبوعين كاملين, وكان جديدا أن يصغي المجمعيون لأول مرة لممثلي هذه المؤسسات وهم يعرضون خبراتهم وتجاربهم ووجهات نظرهم, وخلاصة أبحاثهم, ويشاركون في مناقشة تطوير الدور الذي يقومون به مؤازرة لدور المجامع اللغوية, والعمل علي مواجهة ما يلقونه من صعاب وتحديات, وما يتطلبه نضالها اليومي التطوعي المستمر من إمكانات علمية ومادية. وفي مصر ثلاث من مؤسسات المجتمع المدني العاملة في مجال اللغة العربية حفاظا عليها وتوعية بها ونشرا لها, وهي: الجمعية المصرية لتعريب العلوم وجمعية لسان العرب وجمعية حماة اللغة العربية, وهي جمعيات جديرة باهتمام المسئولين عن التعليم والإعلام والثقافة, ودعمهم لها, ومؤازرتها في الدعوة إلي إعادة النظر في أوضاع تعليم اللغة العربية خاصة والتعليم عامة والاهتمام بتطويره في أهدافه ومضمونه ووسائله, حتي يكون مواكبا لروح العصر, مسايرا للجديد في آفاق الفكر التربوي, معنيا بالتعليم قدر عنايته بالتعليم, لأن التعليم يتطلب دراسة النشء المتعلم وقدرته علي إتقان لغته القومية, والكيفية التي ينبغي حفزه بها واستثارته لتعلمها, في حين يهتم التعليم بالمنهج والكتاب المدرسي ومستوي المعلم وطرائق التدريس وأساليب تقييم العملية التعليمية, بحيث تكتمل مفاهيم التعليم والتعلم في منظومة تربوية واحدة. وتدرك المجامع اللغوية حجم الجهد الذي تقوم به مؤسسات المجتمع المدني العاملة في مجال اللغة في مواجهة اللهجات والعاميات السائدة في مجتمعاتنا العربية, ومواجهة نزعات التغريب المتمثلة في إطلاق الأسماء الأجنبية في فوضي شاملة علي المحال والمنشآت والمؤسسات وحتي القري السياحية وغيرها, والعزوف عن استخدام التسميات العربية. ولا شك أن مجمعنا اللغوي المصري والمجامع العربية جميعها في أشد الحاجة إلي مؤازرة مؤسسات المجتمع المدني في التحذير من ظاهرة اتساع التعليم باللغات الأجنبية في مرحلتي التعليم العام والتعليم الجامعي, وهو أمر يختلف عن تعليم اللغات الأجنبية الذي هو بكل تأكيد ضرورة من ضرورات التحديث والانفتاح علي العالم وتبادل المعرفة والخبرات في مجالي العلوم والتكنولوجيا. أما التعليم باللغات الأجنبية, الذي يتسع نطاقه في كل يوم علي مستوي مدارس المرحلة الأولي, والذي يتزايد عدد الجامعات الأجنبية الممثلة له, يوما بعد يوم, فهو أمر يحمل في طياته خطرا مستقبليا داهما علي هوية المواطن المصري والعربي, وعلي انتمائه لثقافته وتاريخه وأمته, ويجعل من مجموع المواطنين أخلاطا غير متجانسة عقلا وفكرا وانتماء.. إن ثورتنا المصرية سرعان ما رفعت شعارها الأول: الشعب يريد إسقاط النظام. وهي كلمات أربع فصيحة, حددت في مبناها ومعناها هوية هؤلاء الثوار الذين أشرقوا علي الوطن ومعهم شمس الحرية والكرامة. وقد أحصي الباحث الأكاديمي والخبير المجمعي الدكتور محمد داود في أحد بحوثه إلي المجمع عددا من التعابير التي جعل عنوانها: امن وحي ثورة الشبابب, ومنها علي سبيل المثال: أجندة أجنبية, الثورة المضادة, أجواء ثورية, أحزاب الديكور, خلايا نائمة, ثورة بيضاء, دولة الرجل الواحد, مظاهرات استباقية, وفئوية, القوة الناعمة, الملاءة المالية, النظام الورقي أو الكارتوني, معارضة بلا أنياب, علي خلفية كذا, فتنة عمياء, الطبعة الأولي, والأخيرة. شعارات رنانة, علي خلفية كذا, فتنة عمياء, الطبعة الأولي, والأخيرة. شعارات رنانة, تستيف الملفات, مشاركة لا مغالبة, رياح التغيير, فراغ أمني, فراغ دستوري, انفلات أمني, فلتان أمني, الفوضي الخلاقة, ملاحقات أمنية, لاعب رئيسي في كذا, أنظمة قمعية, نمر من ورق, أنصاف الحلول, نصر مستحق, وغيرها كثير. فهل يصبح هذا الموقف الذي اتخذه المجمع, دعوة ذاتية يقوم بها هو نفسه, لتجديد مناهجه وأساليبه وأدواته في العمل, ومسايرة روح المجتمع كله في نبضها الشبابي العارم, وإيقاعها الجديد المتحمس, متخلصا من كل ما كان يتهم به من أداء بطيء, وعزلة أو انعزال عن واقع اللغة في المجتمع, والمشاركة في حركة اللغة الحية الهادرة, عكوفا علي قضاياها الجوهرية, ومشكلاتها المتصلة بحياة الناس, وتعليم النشء, وتيسير هذا التعليم بالإفادة من تجارب الشعوب الأخري المتقدمة أصحاب اللغات الحية. عندئذ يحق لنا أن نفاخر بمجمع لغوي يسابق الزمن, ويسرع الخطي, ويستلهم روح الشباب. المزيد من مقالات فاروق شوشة