فجأة أعلن في القاهرة يوم الأربعاء السابع والعشرين من أبريل الماضي عن توقيع ممثلي حركتي فتح وحماس علي وثيقة المصالحة الوطنية أو الورقة المصرية, وفي الرابع من مايو الجاري تم توقيع الوثيقة بشكل نهائي. من جانب الفصائل الفلسطينية المختلفة وفي مقدمتها الفصيلين المعنيين, فتح وحماس. وبمجرد إعلان التوقيع بدأت الاحتفالات في الضفة والقطاع بهذه المناسبة, وكان يوم فرح لم يشهده القطاع منذ سنوات طويلة. وبينما كان الرئيس الفلسطيني, زعيم فتح ومنظمة التحرير, محمود عباس, ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس يتبادلان الرسائل المباشرة وغير المباشرة في القاهرة, ومؤداها الإصرار علي مواصلة المصالحة والسير قدما في تنفيذ استحقاقاتها, كان المشهد في تل أبيب مغايرا تماما, فالتوتر سيد الموقف والتهديدات تتصاعد من أطراف الحكومة الإسرائيلية باتجاه أبو مازن والسلطة الوطنية, التي عليها أن تختار ما بين المصالحة مع حماس أو السلام مع إسرائيل بكل ما تعنيه من تهدئة, وأموال الضرائب إضافة إلي التلويح بوقف التمويل الدولي. وبدا واضحا أن الرئيس الفلسطيني قرر السير قدما في طريق المصالحة غير عابئ بمثل هذه التهديدات. السؤال هنا لماذا جري التوقيع علي الورقة المصرية بهذه السهولة, وهل سوف تستمر المصالحة, وما هي ضمانات الاستمرار, وإلي أين يمكن أن تقود هذه المصالحة فيما يخص مستقبل القضية الفلسطينية ؟ يبدو واضحا أن الثورة المصرية كانت بوابة العبور إلي كل ما جري في قضية المصالحة, فالثورة سعت لاستعادة دور مصر الإقليمي, فانطلقت الخارجية المصرية لتعبر عن سياسة دولة إقليمية رئيسية, تحركت لدفع القوي التي تمدد دورها الإقليمي واقتربت من شواطئنا وحدودنا كي تعود باتجاه حدود بلادها, تاركة ما شغلته من مساحة الدور لمصر من جديد, وعلي وقع هذا التوجه بدأ التوتر الإسرائيلي ومعه التصعيد المعتاد ضد مصر, لتدخل العلاقات في مرحلة جديدة توصف مؤقتا بالحرب الباردة. بدأت مصر تستعيد دورها الإقليمي قبل أن تستعيد عافيتها الأمنية والاقتصادية. وتخلصت سياسة مصر الخارجية من أسر المعادلة التي أرساها نظام مبارك مع واشنطن وتل أبيب في أعقاب الانتخابات البرلمانية الفلسطينية الثانية التي جرت في يناير2006 وأدت إلي فوز حركة حماس بغالبية مقاعد البرلمان الفلسطيني, حيث أقنع مبارك واشنطن وتل أبيب بأن شعوب المنطقة غير جاهزة للديمقراطية, وأن أي انتخابات حرة نزيهة في أي دولة من دول المنطقة سوف تأتي بالإسلاميين الذين سوف يبادرون بإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل ويعيدون طرح مقولات تدمير إسرائيل والقضاء عليها, لذلك فالأفضل للغرب عامة وواشنطن خاصة أن تترك مبارك, ومعه النظم العربية, يحكم شعبه بالطريقة التي يراها, أي تطلق يده في كل ما له علاقة بالشأن الداخلي, مقابل أن ينفذ لهم كل ما يطلب منه إقليميا باتجاه غزة, لبنان وإيران وغيرها, ومن خلال هذه المعادلة لم تمانع واشنطن في توريث الرئاسة في مصر, وهو ما ألمح إليه بعض المقربين إلي قلب النظام بالقول أن الرئيس المصري القادم لابد أن يحصل علي رضاء واشنطن وتل أبيب, فهو كان يقر بمكونات صفقة ولم يكن يدلي برأي. تخلصت مصر الثورة من هذه المعادلة, ولم تعد في حاجة لبيع دورها الإقليمي, فنشطت باتجاه استعادة الدور والمكانة, وكانت قضية توقيع وثيقة المصالحة من بين الأولويات. في المقابل, وصلت رياح ثورة المصريين إلي غزة ورام الله, ووصل منها أن الشعب أطاح بنظام سلطوي قمعي, وترددت في شوارع غزة ورام الله شعارات وافدة من ميدان التحرير الشعب يريد إنهاء الإنقسام, والرسالة أن مواصلة الصراع علي السلطة بين فتح وحماس يمكن أن يدفع بالشعب الفلسطيني إلي فرض إرادته علي النظام إما عبر الاستجابة لما يريد أو الخروج لحمل شعارات التغيير والتي قد تنتهي برفع شعار إسقاط النظام ومن ثم فالسقوط آت لامحالة. أيضا كان لوصول رياح الثورة إلي دمشق تأثيراتها المهمة علي حركة حماس التي تتخذ من دمشق مقرا لمكتبها السياسي, وأن النظام السوري, وبصرف النظر عن مدي التغيير الذي سوف يطوله, لن يظل كما كان ملاذي آمنا لحركات المقاومة ولا معقلا للممانعة. ولا يمكن إنكار أن رسالة من طهران قد تكون لعبت دورا في دفع حماس إلي تغيير قدر من موقفها, وفي الرسالة تحية للتوجه المصري الجديد المنفتح علي إيران والخارج علي معادلة نظام مبارك. في نفس الوقت فأن أبو مازن, أو السلطة وحركة فتح عادت مع الرهان علي التسوية بخفي حنين. كما لا يمكن استبعاد أن تكون واشنطن قد استحسنت التوجه نحو المصالحة كنهج برجماتي يقابل تحرك حماس نحو مزيد من الواقعية السياسية ويرد علي تعنت الحكومة الإسرائيلية التي رفضت مجرد القبول بطلب الرئيس الأمريكي تمديد تجميد البناء في المستوطنات, وكم من مواقف مشابهة بريطانية وأمريكية كانت تري في لطم إسرائيل مصلحة كبيرة لجميع الأطراف عبر إعادتها إلي جادة الصواب, وذلك من منطلق الحرص علي إسرائيل لا عقابها. وهنا يمكن الإشارة إلي ردود الفعل المرحبة باتفاق المصالحة من جانب باريس وبرلين ولندن, ثم رد واشنطن المتحفظ بأنها تنتظر دراسة اتفاق المصالحة قبل ان تعلن موقفها منه, وهو يفارق الموقف الأمريكي التقليدي الذي كان يتبني علي الدوام ما تريد تل أبيب ظالمة أو مظلومة. المؤكد أن ما جري في قضية المصالحة لا يمكن تفسيره بعامل واحد من العوامل, ولكنها مجموعة عوامل تضافرت لتسفر عن تحرك مصري وتجاوب فلسطيني وترحيب أوروبي وترقب أمريكي....والمؤكد أيضا أن التعديلات التي جري إدخالها علي الوثيقة لإتمام التوقيع مثلت قفزا علي قضايا خلافية, جري ترحيلها أو تجاوزها( مثل قضية بقاء الأوضاع الأمنية في الضفة والقطاع علي ما هي عليه, اي استمرار السيطرة الأمنية لحماس علي القطاع وللسلطة الوطنية علي الضفة الغربية), والاتفاق علي تشكيل حكومة تكنوقراط غير فصائلية لمدة عام إلي حين إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية, أي جري إبرام صفقة لتقاسم مهام إدارة المرحلة الانتقالية. السؤال هنا هل هناك ضمانات لاستمرار هذا الاتفاق ؟ الإجابة نعم وتتمثل في ضغوط الواقع محليا وإقليميا, وواقعية الاتفاق من ناحية والأهم هو استعداد الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع للخروج علي السلطة هنا وهناك وربما إسقاطها في حال العودة إلي الانقسام من جديد, فرياح التغيير التي هبت علي تونس, والأهم علي مصر والتي وصلت من ميدان التحرير إلي شوارع غزة ورام الله تقول ببساطة أن معادلة فرض إرادة الحاكم قد ذهبت مع رحيل مبارك ومن قبله بن علي, وأن الاحتفالات المبالغ فيها في شوارع غزة تحديدا كانت بمثابة رسالة من الشعب إلي السلطة مؤداها أن في غزة ورام الله ميادين كثيرة وأن أحدها يمكن أن يتحول إلي ميدان تحرير فلسطيني يطيح بالنظام. وأخيرا, فعلي الأرجح سوف تندفع إسرائيل نحو البحث عن ذريعة لشن عدوان علي غزة لاسقاط المصالحة, ونتمني ألا يقدم لها اي فصيل فلسطيني هذه الذريعة, فالمطلوب فقط التمسك باتفاق المصالحة واحترامه حتي سبتمبر القادم, موعد الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة, والتي سوف تنظر بالقطع في مطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة, وسوف تمرره بغالبية تزيد عن90% من الدول الأعضاء, حيث لكل دولة صوت, وحيث لا وجود لحق النقض أو الفيتو, إذا وصلنا إلي هذه النقطة فإن المعادلة سوف تتغير بالكامل, إذ سوف تتبدل طبيعة المفاوضات من كونها بين دولة احتلال وسلطة تمثل الشعب الخاضع للاحتلال إلي مفاوضات بين دولتين تحتل إحداهما اراضي الأخري, إضافة إلي ما سوف يمثله اعتراف غالبية دول العالم بالدولة الفلسطينية من قيد أخلاقي وسياسي شديد علي واشنطن التي قد تضطر في النهاية إلي التسليم بالدولة الفلسطينية المستقلة, فهل يصمد اتفاق المصالحة إلي ما بعد سبتمبر القادم...؟