المنتديات الثقافية والفكرية العربية لا تكف عن التساؤل عما إذا كانت الحرب, أو عمليات عسكرية غربية إسرائيلية, سوف تحدث تجاه إيران أم أن الأمر كله لا يزيد عن أنواع من التهديد يكون فيها الكلام والعبارات الساخنة بديلا عن الفعل وتغيير الأمر الواقع. ولا يخلو الأمر أحيانا من الحنين للحرب ذاتها, فقد جرت آخر الحروب الشرق أوسطية في غزة منذ أكثر من عام, أما الحروب الجارية في أفغانستان والصومال واليمن فقد باتت مملة إلي حد كبير, أو أن المعلقين قد فرغوا من كل ما فيها من قصص. ولكن الحنين للحرب ليس بعيدا عن الاعتقاد أن الحسم العسكري هو الذي يغير أمور وموازين القوي بصورة جذرية بعد أن ظلت منطقتنا علي حالها لفترة طويلة, وينسي هؤلاء كيف أن الحروب الجارية كانت في مبدئها اعتقادا في إمكانية تغيير أوضاع قائمة إلي الأفضل; ولكن آخرها كان التبديل بما هو أسوأ. وللحق, فإن النقاش لا يأتي من فراغ, فهناك مؤشرات كثيرة علي التأهب لأعمال عسكرية تؤكد أن المنطقة ربما تكون مقبلة علي حرب جديدة تكون إيران محورها, أولا بسبب أزمة ملفها النووي التي وصلت إلي مرحلة حرجة; وثانيا بسبب تحالفها مع العديد من القوي والمنظمات الإقليمية, لاسيما سوريا وكل من' حزب الله' وحركة' حماس', والذي يعتبر كلا منها هاجسا أمنيا بالنسبة لإسرائيل. فقد بدأت إيران, في9 فبراير الحالي, عملية إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب20% وهو ما يجعلها تنتج ما بين3 إلي5 كيلو جرامات في الشهر, وهو ما يساوي ضعف ما تحتاجه إيران لاستخدامات طبية. وقد بررت طهران هذا القرار بعدم التوصل إلي اتفاق مع مجموعة5+1 من أجل تسليمها الوقود النووي الذي تحتاجه لتشغيل مفاعلها للأبحاث الطبية, ولكن هذا القرار كان تصعيدا من جانب إيران بحيث يدفع الغرب في اتجاه فرض مزيد من العقوبات علي إيران وهو الأمر الذي قد يستغرق, كما توقع وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس, أسابيع وليس أشهرا, لكن الأهم من ذلك هو أنه يمكن أن يؤدي إلي طرح الخيار العسكري بقوة لحسم الأزمة, وذلك لاعتبارين: الأول, أن نجاح إيران في رفع نسبة التخصيب إلي20%, سوف يجعلها تحقق قفزات كبيرة جدا في برنامجها النووي, ومن ثم يقربها أكثر من امتلاك القنبلة النووية, التي تحتاج إلي نسبة تخصيب90%. والثاني, زيادة الضغوط الداخلية علي إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لتبني سياسة أكثر تشددا تجاه إيران, لاسيما أن سياسة' اليد الأمريكية الممدودة' لإيران أثبتت فشلها في دفع الأخيرة إلي إبداء مرونة في موقفها من الأزمة تسهل التوصل إلي تسوية سياسية لها. ومن هنا تعمدت الولاياتالمتحدة توجيه رسائل تهديد إلي إيران جاءت علي لسان بعض القادة العسكريين الأمريكيين, وعلي رأسهم قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال ديفيد بترايوس الذي قال في مقابلة مع شبكة' سي إن إن' في منتصف الشهر الماضي أنه' سيكون من غير المسئول تماما ألا تفكر القيادة الأمريكية الوسطي المسئولة عن المنطقة في سيناريوهات محتملة وأن تضع خططا للرد علي مجموعة متنوعة من الأوضاع الطارئة', مشيرا إلي أن قصف منشآت إيران النووية' ممكن بالتأكيد'. وأفادت تقارير أن الإدارة الأمريكية بدأت في التعجيل بنشر منظومات دفاعية جديدة ذات قواعد برية وبحرية في الخليج وحوله بهدف مواجهة أي تهديد صاروخي متزايد من جانب إيران, حيث نصبت أنظمة مضادة للصواريخ' باتريوت' في أربع دول عربية هي: قطر, والبحرين, والإمارات العربية المتحدة, والكويت, كما ستحتفظ الولاياتالمتحدة بسفينتين حربيتين في الخليج قادرتين علي إسقاط الصواريخ الإيرانية, وستساعد المملكة العربية السعودية علي بناء قوة عسكرية قادرة علي حماية منشآتها النفطية. إسرائيل من ناحيتها وجدت في القرارات الإيرانية ما يضاف لموقفها السابق ويساعد في جهودها للتعبئة العسكرية التي بدأتها حين نظمت قواتها الجوية في مايو الماضي مناورات واسعة النطاق استمرت أربعة أيام اختبرت خلالها القدرات الدفاعية في مواجهة غارات جوية أو هجمات صاروخية من سوريا وإيران ولبنان, كما أجرت في يونيو الماضي أضخم وأكبر مناورات عسكرية في تاريخها, بهدف إعداد المواطنين والجنود وطواقم الإنقاذ للتعامل مع احتمالات الحرب. وبعد الاستعداد العسكري جاءت الحرب الكلامية الإسرائيلية والتي بدأها وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك بتحذيره من نشوب' حرب شاملة' في حال عدم التوصل إلي السلام مع دمشق. وتبعه وزير الخارجية أفيجدور ليبرمان الذي وجه تهديدات للنظام السوري مفادها أن الحرب المقبلة إن وقعت لن تقتصر علي إلحاق الهزيمة العسكرية بسوريا بل ستعمل علي إسقاط نظام بشار الأسد فيها. وقد ردت سوريا علي ذلك بتصعيد مماثل بدأه وزير الخارجية وليد المعلم الذي وجه حديثه للإسرائيليين بقوله:' لا تختبروا سوريا, تعلمون أن الحرب في هذا الوقت سوف تنتقل إلي مدنكم, عودوا إلي رشدكم وانتهجوا طريق السلام', فيما قال الرئيس السوري بشار الأسد أن الإسرائيليين لا يعرفون ماذا يفعلون, ووصف القادة السياسيين الحاليين في إسرائيل بأنهم' كالأطفال يتعاركون مع بعضهم ويعبثون بالمنطقة'. هذه الخطوات ردت عليها إيران بتحركين: الأول, تأكيد الدعم لسوريا في مواجهة تهديدات إسرائيل, حيث قال وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي أن' إيران ستقف إلي جانب جميع إخوانها العرب في حال حصول أي مشكلة وفي حال تعرضهما لأي عدوان'. والثاني, تعزيز موقفها العسكري, وهو ما عكسته بافتتاح خطوط إنتاج لنوعين من الصواريخ, الأول مضاد للمدرعات باسم طوفان5, والثاني موجه ضد المروحيات باسم' قائم', وإعلانها علي لسان رئيس الأركان العامة للجيش الجنرال حسن فيروز أبادي أنها' تعرف مكان صواريخ باتريوت' الأمريكية المضادة للصواريخ المنتشرة في دول الخليج, ملوحة بأنها قادرة علي إحباط تأثيراتها من خلال خطط وصفتها بأنها بسيطة, مشيرة في ذلك إلي أعمال إرهابية أو عسكرية تدميرية للمنشآت. لكن في مقابل كل مؤشرات التصعيد هذه, هناك مؤشرات دافعة في الاتجاه المقابل, أي عدم شن حرب جديدة, لاعتبارات تخص كل أطراف المواجهة: فعلي الصعيد الأمريكي, ظهر تيار جديد يري أن العداء المستحكم بين واشنطنوطهران منذ قيام الثورة عام1979, أضر بالمصالح الأمريكية, وأن التعاون مع إيران والتنسيق بين المصالح الإيرانيةوالأمريكية في المنطقة يمكن أن يعود علي الولاياتالمتحدة بمكاسب أكثر من المواجهة, لاسيما أن إيران, وفقا لهذا الاتجاه, يمكن أن تعود إلي لعب دور شرطي المنطقة, الذي مارسته خلال فترة حكم الشاه وأثبتت كفاءتها من خلاله في حماية المصالح الأمريكية. وفقا لهذا الاتجاه فإن التعاون مع إيران من شأنه تحويلها من مصدر لعدم الاستقرار وخطر علي أمن ومصالح الولاياتالمتحدة إلي صمام أمان لهذه المصالح في المستقبل. فضلا عن ذلك, فإن التعثر الأمريكي في المنطقة, لاسيما في العراق وأفغانستان, يحول دون فتح جبهة جديدة للحرب مع إيران, التي سوف تندفع حتما إلي الرد علي الضربات الأمريكية المحتملة بتهديد المصالح الأمريكية والقواعد العسكرية وحلفاء الولاياتالمتحدة في المنطقة وعلي رأسهم إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي. وعلي الصعيد الإيراني, فإن إيران تسعي بكل جهدها إلي تفادي التعرض لضربة عسكرية لمنشآتها النووية, لأن ذلك قد يكلفها كثيرا, في وقت تواجه فيه أزمة داخلية عنيفة, دخلت شهرها السابع, بسبب الاحتجاج علي نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في يونيو الماضي, بشكل أحدث شرخا داخل النظام يمكن أن يعجل بسقوطه في حال لو تعرض لضربة عسكرية. ووفقا لهذا الاتجاه, فإن التصعيد الإيراني الأخير مع الغرب المتمثل في رفع نسبة التخصيب إلي20%, يمكن أن يؤدي إلي التسوية وليس إلي المواجهة, لأن إيران تهدف من خلاله إلي بدء جولة مفاوضات جديدة مع الغرب, لاسيما أنه تزامن مع تصريح رئيس هيئة الطاقة النووية الإيرانية علي أكبر صالحي الذي قال فيه أن المجال ما زال متاحا للتفاوض بشأن مبادلة اليورانيوم المخصب. أما علي الصعيد الإسرائيلي, فبالإضافة إلي العراقيل التي ستواجه أية ضربة إسرائيلية محتملة للمنشآت النووية الإيرانية, المتمثلة في صعوبة الحصول علي إذن مسبق من بعض الدول للمرور عبر أراضيها, وحرص إيران علي نشر منشآتها النووية في مختلف أنحاء البلاد فضلا عن وجودها في أنفاق تحت الأرض, فإن أية ضربة عسكرية لإيران يمكن أن تشعل حربا شاملة في المنطقة بسبب احتمال دخول حلفاء إيران فيها, لاسيما سوريا, التي ستفعل ذلك لتأكيد التزامها بتحالفها الاستراتيجي مع إيران, و'حزب الله' الذي أعلن مؤخرا أن إيران بحضورها الاستراتيجي في المنطقة تمثل قوة لكل العرب في وجه الغطرسة الإسرائيلية وأن أي عمل لتحويل وجهة الصراع تجاه إيران سيكون خيانة لكل قضايا الأمة, و'حماس' التي أعلن رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل خلال زيارته الأخيرة لطهران في15 ديسمبر الماضي أن الحركات الإسلامية في المنطقة ستقف جبهة واحدة مع إيران إذا تعرضت لهجوم من جانب إسرائيل. المؤشرات هنا بين اختبارات القوة والحرب تكاد تكون متوازنة, ومن الممكن أن تكون قعقعة للسلاح أكثر منها مقدمة للصدام, وهناك دائما السيناريو الثالث, أي انفلات الأوضاع' بالصدفة' أو ب'طريقة غير مقصودة' قد تؤدي إلي نشوب حرب شاملة في المنطقة, خصوصا في ظل حالة التحفز التي تبدو عليها الدول أطراف الأزمة, فضلا عن وجود عدد كبير من قواتها علي مسافات ليست بعيدة عن بعضها. وربما كان ذلك هو السيناريو المرجح حيث يشهد الشرق الأوسط حروبا بقوة الاندفاع الذاتي لمنطقة بالغة التوتر والغليان. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد