كانت مظاهرات الطلبة في عام1968 و1972 أول إشارة من ناحية إلي تصميم الشعب علي إزالة آثار العدوان; ومن ناحية أخري إلي وجود جماعات جديدة في السياسة المصرية كانت ثورة يوليو ذاتها هي السبب في وجودها من خلال مجانية التعليم. وكانت الثورة قد أعادت اكتشاف جيلها الجديد عندما وجدت أن واحدا من ضرورات النصر علي إسرائيل هو دخول المؤهلات العليا من خريجي الجامعات والمعاهد إلي القوات المسلحة ضباطا وجنودا لكي يشكلوا واحدا من أهم التغيرات النوعية في الجيش المصري والتي أحدثت فارقا كبيرا خلال حربي الاستنزاف وأكتوبر المجيدتين وقادت في النهاية إلي النصر وتحقيق أول انكماش في الإمبراطورية الإسرائيلية التي كانت قد امتدت منذ حرب يونيو1967 من القنطرة المصرية إلي القنيطرة السورية ومن البحر المتوسط إلي نهر الأردن. المظاهرات والحرب وعودة الوعي التي أطلقها توفيق الحكيم, ومن بعدهما وفاة الرئيس جمال عبد الناصر وتولي الرئيس أنور السادات للسلطة فتح الباب مرة أخري لأجندة إصلاحية جديدة للمجتمع المصري استمدت أصولها من أفكار ما قبل ثورة يوليو, وما بات سائدا في المجتمع الدولي, والعلاقات الدولية والإقليمية الجديدة لمصر التي بات فيها عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل ممكنا لأول مرة في تاريخ الصراع. ومن هنا جاءت تلك الحزمة الجديدة من الإصلاحات التي دعت إلي الانفتاح الاقتصادي, والتخفيف من القيود علي عمليات التصدير والاستيراد والاستثمار الأجنبي, وإقامة نوع ما من التعددية الحزبية, مع انفتاح نسبي في حرية الرأي والتعبير وخروج المعتقلين من السجون من تيارات مختلفة. وكان طبيعيا مع هذه التغيرات أن تظهر نجوم جديدة للمرحلة الساداتية تختلف عن نجوم المرحلة السابقة ومن ثم ناصب النجوم الجدد, والنجوم القدامي, العداء لبعضهم البعض. ولكن ما يهمنا هنا أن التيار الإصلاحي في السياسة المصرية وجد لنفسه مرة أخري فرصة لكي يجد أرضا يصلح من خلالها البلاد بعد عقدين تقريبا من سيادة تيار البعد الواحد القائم علي دولة مركزية ذات قبضة حديدية. ولكن عودة التيار الإصلاحي كانت تعاني من الاختناق بداية من ترجمة دولة البعد الواحد في الدستور الدائم لعام1971 الذي كان إيجابيا فيما تعلق بالسلطات العامة; ولكنه كان سلبيا تماما فيما يتعلق بالسلطات شبه المطلقة التي أعطاها لرئيس الجمهورية. وأظنه كان الأستاذ طارق البشري هو الذي وصف سلطات الرئيس بأنها تماثل تلك الممنوحة لأئمة الشيعة وأمراء المؤمنين. ولم يكن الرئيس السادات, علي اختلاف صفاته الكثيرة مع الرئيس جمال عبدالناصر, بعيدا عن الحقيقة عندما وصف نفسه بأنه سوف يكون آخر الفراعنة. وكان ذلك هو ما ترجمه بالفعل عندما اضطربت البلاد بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عندما قام بالتعديلات الدستورية الشهيرة التي ألغت تحديد مدة رئاسة الجمهورية بفترتين; وجعلت مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع; وأضافت أحكاما تكميلية جعلت الصحافة سلطة رابعة بعد تقييد القومية منها من خلال مجلس الشوري والمجلس الأعلي للصحافة. والحقيقة أن من عاش عقد السبعينيات عرف عن قرب ذلك التوتر الحادث ما بين المحاولات الإصلاحية لإعطاء مصر طريقا نحو التنمية والديمقراطية, وتلك المحاولات التي تربطها وتقيدها في إطار الدولة ذات البعد الواحد. وبينما كانت هناك محاولات للانفتاح الاقتصادي فقد كانت بيروقراطية الدولة والقطاع العام تتوسع وتسيطر وتهيمن, ولم يجد الرئيس السادات غرابة في تعيين الماركسيين د. إسماعيل صبري عبد الله ود. فؤاد مرسي في وزاراته الأولي. والغريب أن محاولات الانفتاح التي اقتصرت علي تلبية رغبات طبقة جديدة من المصريين تيسرت أحوالها بعد الذهاب إلي الدول العربية النفطية, ومع زيادة النشاط الاقتصادي بعد حرب أكتوبر وزيادة احتمالات السلام مع إسرائيل; فإنها كانت كافية لإثارة الذعر لدي جماعات سياسية وفكرية كانت تجد في الدولة أحادية البعد تعبيرا عن الأماني القومية. وعندما وصف الأستاذ أحمد بهاء الدين الانفتاح الاقتصادي بأنه انفتاح السداح مداح فإنه كان يعبر عن قشرة اقتصادية ضعيفة بينما كان جوهر الدولة مركزيا ومسيطرا ومهيمنا علي ثروة محدودة تهددها زيادة سكانية مخيفة, وتطلعات كبري جاءت بعد عقود من شد الأحزمة علي البطون, وبعد صمت طويل ران علي الوطن كله لأنه لا صوت يعلو علي صوت المعركة. علي أي الأحوال فإن وصف انفتاح السداح مداح سرعان ما أصبح هو الشعار المرفوع في الساحة السياسية والاقتصادية لمواجهة كل مشروعات الإصلاح المالي والاقتصادي والتي كان ممكنا أن تحول التدفقات المالية لهذه الفترة إلي مشروعات استثمارية لولا جهود الدولة الخانقة في احتكار العمل الاقتصادي من خلال مشروعاتها العامة, وإصرارها من خلال الحزب القائد حزب مصر ثم الحزب الوطني الديمقراطي- علي السيطرة علي العمل السياسي. كان الرئيس أنور السادات يحاول مع آخرين أن يصنع المستحيل الذي يجمع السلام والتنمية والديمقراطية في حزمة واحدة في وقت ولاء كامل لنظام سياسي كان بعده الواحد يستحكم كل لحظة. ومع هذا التناقض لم يكن مستغربا في النهاية أن يتم اغتيال الرئيس من قبل جماعات إسلامية كانت قد وجدت البيئة المناسبة لها في دولة العلم والإيمان. ورغم أن الثمانينيات شهدت التحرير الكامل للأراضي المصرية المحتلة في عام1967 عندما خرج الإسرائيليون من سيناء بعد خمسة عشر عاما من الاحتلال, ومن القطعة الباقية في طابا في عام1989 بعد عملية تحكيم بارعة; فإن الثمانينيات في مجملها كانت عقدا للركود الاقتصادي. فقد بدأ الرئيس الجديد حسني مبارك طريقه من خلال عقد مؤتمر للإصلاح الاقتصادي كانت نتيجته في مجملها تقوم علي مقاومة السداح مداح والسعي نحو انفتاح انتاجي كان معناه أن يكون هناك مزيد من سيطرة الدولة علي العمليات الإنتاجية والإستهلاكية. وبعد توصيف المعضلة المصرية علي أنها معاناة من نقص البنية الأساسية, وهي كانت بالفعل منهارة تماما, كانت عملية بنائها من خلال القروض والمنح والمعونات الأجنبية تعني في الواقع العملي مزيدا من هيمنة وسيطرة الدولة. وعكست هذه الهيمنة والسيطرة نفسها علي الحياة السياسية التي أفرزت مجلسين للشعب أبطلتهما المحكمة الدستورية العليا التي مثلت الإصلاح الرئيسي خلال هذه المرحلة والتي كانت في النهاية هي أول من خلق نوعا من التوازن مع السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية. والحقيقة أنه لم تخل هذه المرحلة من محاولات الإصلاح التي سمحت ببعض الاستثمارات الأجنبية والخاصة, وظهور الصحافة الحزبية, ولكن اليد الثقيلة للدولة استمرت ليس فقط في توسع الأجهزة الأمنية المختلفة, ولكن أيضا في استمرار التوسع البيروقراطي, وحتي الاستثماري الذي وصل إلي بناء المنتجعات السياحية لشرائح اجتماعية جديدة باتت تتسابق علي مراقيا ومرابيلا. ولكن البنية الأساسية لم تكن في حد ذاتها كافية لخلق الاستثمارات, وسرعان ما أصبحت علي مصر أعباء ثقيلة للديون. وعلي مدي العقد تغير وزراء الاقتصاد, ومعهم كانت العملة المصرية تنخفض, وفي وقت من الأوقات كان هناك سبعة أسعار للعملة وهو ما عكس نظاما سياسيا واقتصاديا يشده الماضي أكثر مما يجذبه المستقبل. كان العقد كله ضائعا, فلم ينتج عن تحرير الأرض تحرير للإنسان المصري; وجاء ظهور الإسلام السياسي, ومعه عمليات إرهابية متنوعة, وحتي تمرد الأمن المركزي, لكي يقيد المناخ السياسي ويجعله مقاوما لكل دعوات الإصلاح لأنها كما قيل أيامها كانت ستمثل قفزة إلي المجهول. ولم ينتج عن التطور في البنية الأساسية قفزة إنتاجية مماثلة, وظلت التعددية السياسية مضطربة بتحالفات ما بين حركة الإخوان المسلمين وحزب الوفد مرة وحزب العمل والأحرار مرة أخري. وببساطة كان الموقف من حركة الإخوان المسلمين عاكسا لواقع وجود الحركة من ناحية, والعجز عن استيعابها في نظام ديمقراطي حقيقي من ناحية أخري. وهكذا لا سمح النظام للجماعة بالحركة المستقلة, ومن ثم المحاسبة من قبل الرأي العام, ولا منعها من العمل; ومن ثم وصل إلي الصيغة التي شاعت بعد ذلك وهي الجماعة المحظورة التي أصبح لها أعضاء في مجلس الشعب المصري. جري كل ذلك بينما كان التراكم الاجتماعي جاريا في مصر علي قدم وساق. فمع مطلع العقد كان عدد سكان مصر قد بلغ أربعين مليون نسمة, وبعد أن كانت نسبة المتعلمين فيهم لا تزيد علي25% في عام1960 فإنها وصلت إلي40% في عام1980, ومع وصول عدد العاملين المصريين في الخارج إلي قرابة ثلاثة ملايين نسمة فإن مولدا جديدا للطبقة الوسطي المصرية أخذ في الحضور علي الساحة الاقتصادية والاجتماعية. وجاء هذا المولود الجديد جنبا إلي جنب مع ما تعارف عليه المجتمع منذ ثورة يوليو علي أنه الطبقة الوسطي والتي قامت علي موظفي الحكومة والبيروقراطية المدنية والعسكرية والتي كان لها مكانتها في السلم الاجتماعي والاقتصادي. وكانت النتيجة أن تغيرت الأحوال تماما حتي وصل الأمر إلي ظهور اقتصاد مواز برز في شكل شركات توظيف الأموال التي دخلت لسد الفجوة ما بين نظام اقتصادي تقوده الدولة بفائدة اقتصادية سقيمة بينما التضخم آخذ في الارتفاع, وما بين واقع اقتصادي اختلط فيه السعي نحو خلق اقتصاد خاص والفساد الاقتصادي الواسع خاصا وعاما. وحينما وصل العقد إلي قرب نهايته كان علي الدولة أن تعيد تأكيد نفسها من جديد فقد كان في يدها كل الأدوات, ومن ثم تمت السيطرة علي شركات توظيف الأموال; ولكن الدولة ذاتها كانت في طريقها إلي الإفلاس. وبينما هي في هذه الحالة قام صدام حسين بغزو الكويت!. المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد