قصة عجيبة. يرويها كتاب ومؤرخون كأنها أسطورة.. ففي حضرة أحد أمراء العصر العباسي, وصفوه من العلماء والمفكرين من أهل بغداد.. أظهر رجل موهبة موسيقية خارقة. فقد أخرج آلة موسيقية جديدة, وحرك أوتارها بطريقة معينة فضحك الجميع, ولما بدل أوتارها وعزف عليها أجهشوا بالبكاء. وعندما حركها علي نحو مغاير غطوا في سبات عميق.. فتركهم أبونصر الفارابي نياما, وخرج عائدا إلي بيته! المثير أن هذا الموسيقار البارع, كان ألمع المفكرين في عصره. ونصبه المثقفون أميرا علي عرش الحكمة. وخلعوا عليه تقديرا وتبجيلا لقب المعلم الثاني. وكانوا يطلقون علي الفيلسوف اليوناني أرسطو المعلم الأول. وكانت موهبة الفارابي قد تجلت عندما استقر به المقام في بغداد سنة310ه. وتتلمذ علي اساتذتها في علم المنطق. ونهل من ثقافتها في وقت ازدهار الحضارة الاسلامية إبان الدولة العباسية. وهو وقت جرت فيه ترجمة كتب التراث الفكري اليوناني ومؤلفات فلاسفتها وخاصة أفلاطون وأرسطو. وعكف الفارابي علي دراسة مؤلفاتهم. وأضحي بخفايا أفكارهم عليما. وبرع في شرح وتفسير كتب أرسطو. واهتم اهتماما كبيرا بجمهورية أفلاطون, باعتبارها أول مشروع للفردوس الأرضي( اليوتوبيا). واستلهم منها أفكارا لكتابه الشهير المدينة الفاضلة. وهو كتاب شرع في كتابة فصوله في دمشق, وانتهي من تأليفه ابان زيارته لمصر عام338ه. ومحور المدينة الفاضلة, عند الفارابي, هو رئيس يتحلي بخصال حميدة, وأخلاق رفيعة, وعلم وحكمة, تؤهله لوضع الشرائع وإدارة شئون المدينة. هذه المدينة الفاضلة ظلت مجرد حلم. وكان ما يتحقق في البلد العربية الكوابيس لا الأحلام. ذلك أن بأس الطغاة وأجهزتهم الأمنية كان شديدا, وكان نظام مبارك مثالا لهذا الكابوس المروع, الذي جثم علي صدر مصر وشعبها.. حتي أسقطت ثورة25يناير نظام تحالف الاستبداد والفساد. لكن الرائع حقا أن ثوار يناير تجاوزوا, في جمهورية ميدان التحرير, اراء الفارابي المعلم الثاني.. بحكم التطور التاريخي وثقافة العصر.. وأكدوا بوضوح وجلاء أن الغاية المرجوة هي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية, في ظل دولة القانون والمؤسسات البرلمانية المنتخبة حرا. ولم تعد تبهرهم كاريزما الرئيس وخصاله مهما تطاول الزعم بامكان تحليه بالحكمة.. ان دولة القانون والحكم الرشيد هي القصد والمنتهي. ويتكئ الراوي علي هذا المعني ويشدد علي أهميته, ويقول كان ريجان الرئيس الأربعين لأمريكا مجرد ممثل سينمائي عادي. وعندما أصبح نقيبا للسينمائيين لم يتردد في الوشاية بزملائه من اليساريين للجنة السيناتور ماكارثي سيئة السمعة. وعندما زج به غلاة اليمين من أقطاب الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة وفاز بها عام1980, أصبح واجهة للمؤسسة الحاكمة. وتمكن من الايقاع بالاتحاد السوفيتي العدو الأحمر الاستراتيجي. وتحقق لأمريكا نصرا كونيا. ماذا يعني هذا؟ ان المؤسسات البرلمانية المنتخبة هي الأهم لأنها تضطلع بتحديد الأهداف الوطنية العليا, وترعي تنفيذها طبقا للدستور.. وهذا شأن الدول الديمقراطية. وبهذا يتدفق دوما نبع الحكمة التاريخية.. الشعب مصدر السلطات في إطار الظلال الوارفة لدولة القانون والدستور وماعدا ذلك استبداد وفساد وإثم عظيم. هذه هي جمهورية ميدان التحرير. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي