قبل أيام استوقفتني سيدة مسلمة وقالت لي بغضب شديد: لماذا تهاجم الإسلام وتكتب أن سبب تخلفنا هو الدين؟! قلت لها: استغفر الله لم أهاجم الإسلام قط, هل يعقل أن يهاجم المسلم دينه, لم أكتب أبدا أن الدين سبب تخلف المسلمين. بل قلت إن فهم المسلمين الخاطئ للدين هو من أسباب تخلفهم. قالت: والكهنوت الشعبي الذي انتقدته ألا يعد هجوما علي علماء المسلمين ؟ قلت: بالطبع لا.. فليس كل من يظهر علينا في قناة فضائية عالما, ولا كل من خطب في زاوية.. فراحت السيدة تتمتم بكلمات كثيرة متداخلة.. يفهم منها أن مافعلته هو خروج علي الملة وإجماع العلماء, وهو يشبه مايصنعه الغرب الآن ضد الإسلام.. ثم سألتني بحدة: ولماذا لاتهاجم الدول الغربية التي تنتهك حقوق المسلمين وتعتقل بعضهم وتطارد الحجاب واللحي الطويلة وتعتبر كل مسلم مشتبها فيه؟! لم تنتظر ردي وأسرعت مبتعدة وهي تدعو لي بالهداية والرشاد حرام عليكم الإسلام في خطر..وبعد أن غابت عن نظري, رحت أتأمل بدهشة ماقالته تلك السيدة والطريقة التي تحاورت بها, فهي ليست نصف متعلمة او ست بيت كرست حياتها لعائلتها وهجرت الثقافة, وانما هي صحافية تعمل في المهنة منذ مايزيد علي ثلاثين سنة, اي رأت وقرأت وفكرت وكتبت ولاتزال.. فأين ذهب عقلها؟, ما الذي طمس قدراته فلم يلتزم بمنهج علمي في التفكير؟!, ماذا حدث لنا وجعل قطاعا كبيرا منا سواء تعلم او لم يتعلم يفكر بطريقة العوام والأميين حين يتعلق التفكير بأمر من أمور الدين؟!, والتفكير كما أثبت الكاتب عباس محمود العقاد في بعض كتبه ومقالاته فريضة إسلامية, واقرأ هي أول كلمة نزلت من الله سبحانه وتعالي علي نبيه, والقراءة ليست مجرد ترديد أعمي للكلمات, هي فعل عقلي ينتهي الي قرار, ولهذا كانت معجزة الإسلام هو هذا البناء الرائع من القيم والمفاهيم والمعاملات والتشريعات التي تقود عقل الإنسان الي الايمان والتسليم لله, دون معجزات خارقة للعقل. ماذا حدث بالضبط؟! سؤال معقد يصعب الإجابة عنه. وبالرغم من هذه الصعوبة تصدي له مفكرون كثيرون, منهم الدكتور خالد أبو الفضل في كتابه المهم السرقة الكبري, يحلل فيه كيف سرق المتشددون الإسلام, المعتدل وهو الأصل والجوهر, وحولوه لمصالح سياسية الي دين جامد ومعتقدات متعصبة معادية للآخر, عن طريق بث المخاوف والفزع في أفئدة المسلمين, بتفسيرات في غاية البعد عن الرحمة والعطف والتسامح وهي اهم قيمة التي يحض عليها, ويؤكدها في شعائر الصلوات الخمس يوميا.. حتي أصبح الإسلام في أذهان الكثيرين من سكان الأرض قرينا لما يمكن وصفه بالتعصب والقمع والاضطهاد والعنف! هذه هي الصورة المغلوطة التي رسمها نفر منا عن الإسلام بمفاهيم غير صحيحة, باسم الدفاع عن الإسلام الذي في خطر! والدكتور خالد أبوالفضل أستاذ القانون الإسلامي في جامعة كاليفورنيا, وأستاذ زائر في عدد من الجامعات الأمريكية الشهيرة, وهو امريكي من أصل مصري.. يصفه نفر من الأمريكيين بأنه مفكر يجسد الجانب المعتدل الليبرالي في الإسلام, لكن خصومه يرونه مسلما متشددا متنكرا في زي عصري, أما دانيل بايبس احد المحافظين الجدد فقد وصفه في مقال شهير بانه الإسلامي الشبح! وكتاب ابوالفضل السرقة الكبري في غاية العمق والالتزام بالمنهج العلمي في البحث والتمحيص والتحليل, وهو فيه اجتهادات كثيرة قد نختلف مع بعضها لكننا نقدر الأفكار التي استنبطها وعرضها بسلاسة.. والكاتب يرصد أسبابا سهلت للمتشددين عملية السرقة.. أولا: إن العديد من المسلمين يجهلون دينهم ومايعرفونه منه هو ما ينقل إليهم من آخرين او موروثات عائلية! ثانيا: استغلال الدولة في العالمين الإسلامي والعربي للدين بشكل انتهازي وقح يفتقر الي المصداقية في الخمسين سنة الأخيرة, فتوسعت في السيطرة علي المؤسسات الدينية حتي لايتم التشكيك في شرعية نظام الحكم او تحديه, وهذا صنع مناخا جيدا امام المتشددين ليكتسبوا مساحات كبيرة في نفوس الناس. ثالثا: فوضي الفتاوي التي ضربت المسلمين في العصر الحديث, فبات اليوم اي شخص يستطيع ان يعين نفسه مفتيا دون ان يمنعه اي امر قانوني او اجتماعي, وهؤلاء المفتون الجدد هبطوا بالتراث الإسلامي الي ادني مستوي عام, فشهدت الثقافة العقلية تدهورا غير مسبوق, وتحول الفقه الإسلامي وعلوم الدين الي هواية حرة لكتاب وقراء الكتيبات السريعة. رابعا: الصراع القديم بين المسلمين والاستعمار الغربي, جعل عددا كبيرا من المسلمين في حالة توجس, فتشددوا ضد الأفكار والقيم والعادات القادمة من الغرب, وسلموا عقولهم لكل من يعادي هذه الأفكار, خاصة مع الانكسارات الوطنية وضياع القدس والشعور بالخيبة وبأن الإسلام يساء إليه عمدا من الغربيين! ويحلل الدكتور خالد موقف المسلمين من الأفكار الحديثة, ويقول انه في الوقت الذي ظهرت فيه الافكار المتشددة في القرن التاسع عشر, كانت الحداثة قد أنتجت ثورة في المفاهيم الانسانية حول الحقيقة في العالم, بالتجربة العلمية والإدراك العقلي المنهجي, وهذه الثورة زعزعت استقرار الأفكار القديمة والتقاليد القديمة والنظم القديمة.. وانقسم رد فعل العالم الإسلامي الي ثلاثة انواع. الأول: الاستجابة الكاملة بالتشبه بالغرب والابتعاد قدر الإمكان عن سيطرة الدين كما حدث في تركيا علي يد كمال أتاتورك.. الثاني: التوفيق بين الإسلام والأفكار الحديثة بالتأكيد علي ان الفكر العلمي والعقلاني يتوافقان ويتسقان تماما مع الأخلاق الإسلامية.. الثالث هو الوهابية, فقد استشعرت خطرا داهما علي الأخلاق والعادات والتقاليد الاجتماعية وصنعت لنفسها ساترا ضد الجديد بالتشبث بنصوص إسلامية معينة, تستمد منها الشعور باليقين والراحة! المهم ان هذا النوع من الفكر هو الذي ساد لأسباب كثيرة, وسارت علي دربه الجماعات الإسلامية المتشددة.. ويرسم الدكتور خالد طريقا لاستعادة الإسلام المعتدل من الذين سرقوه ومسخوه, وأول خطوة اليه هو الاعتراف بوجود انشقاق في فهم الدين في نواح كثيرة, وان رصد الواقع الإسلامي كما هو وليس حسب الأمنيات هو الذي سيفتح أبواب الحوار والاجتهاد علي مصراعيها ويتيح للمسلمين إدراك ماحدث لهم والتفكير في استعادة اوجه الرحمة والعطف والتسامح التي هي من صميم سلوك المسلم وجزء من إيمانه.. فهيا بنا جميعا نسترد ديننا من الذين خطفوه وشوهوه.. [email protected]