أنا سيدة في الخمسين من عمري ولدت في أسرة علي قد الحال وتزوجت من ابن عمتي وأنا في الرابعة عشرة من عمري, وفي معركة76 شارك زوجي مع الجيش وأصيب بكسور في الضلوع نتيجة لأسره في اسرائيل, ولما عاد لم يكن أمامنا إلا أن نقيم في بيت والده بلا عمل له. أرسلت الحكومة له مشكورة لكي يعمل بهيئة النقل العام فأتينا إلي القاهرة وكنت في ذلك الحين حاملا في ابني المرحوم, وأنجبت بعد ابني6 بنات. وكان في ذلك الوقت مرتب زوجي لايتعدي6 جنيهات في الشهر, وكان أهل زوجي يتمتعون بالعز والغني, ولكننا عشنا بغير معين إلا الله سبحانه وتعالي. وفي يوم من الأيام فوجئت بأم زوجي حماتي وعمتي تطلب مني أن أجعل بناتي يعملن في المصانع لكي يساعدنني علي أن أعبر ما أمر به من ظروف صعبة, وكانت بناتي في ذلك الوقت في عمر الزهور ولا أستطيع سيدي أن أصف لك مدي حزني لما طلبته عمتي, وقلت لها كيف تطلبين مني هذا الطلب وانت لديك القدرة علي أن تساعديني وتساعدي ابنك, وكيف تقبلين علي بنات ابنك أن يعانين من العمل في المصانع بدون شهادة؟! ولكن سيدي رغم الحزن الشديد لما صدر من عمتي إلا أنه أعطاني قوة داخلية وأعطاني عزيمة كبيرة جدا لا يعلمها إلا الله, عزمت علي أن أجعل من بناتي الست وابني مثلا يحتذي به, ورأيت بناتي يكبرن أمامي يوما بعد يوم, ومرتب أبيهم لم يتعد العشرين جنيها في الشهر, وبدأ الولد والبنات مراحل التعليم المختلفة, وكم كانت معاناتي لكي ألبي طلباتهم, وكانت البنات أعمارهن متقاربة وطلباتهن ثقيلة, ولكن كنت ياسيدي دائما أدعو الله أن يقف بجواري ويمنحني العزيمة والاصرار والصبر. ومرت الأيام بحلوها والكثير من مرها, ولكن رغم كل العناء الذي كنت أعانيه في حياتي إلا أنني كنت سعيدة بابني وبناتي لأنهم كانوا متفوقين في دراستهم رغم المعيشة الضيقة, وكانوا مثلا يحتذي به في الأخلاق, والأثرياء يحسدونني عليهم لأنهم علي قدر ما لديهم من مال لم يستطيعوا أن يسعدوا أولادهم أو يسعدوا بهم. ومرت الأيام وتخرج ابني ووصلت البنات إلي كليات القمة واحدة في كلية الفنون الجميلة, والثانية في كلية تربية جامعة عين شمس, والثالثة كلية الألسن, والرابعة كلية العلوم, وبنت كانت في الشهادة الإعدادية, والسادسة في الصف الثاني الابتدائي, ومرض الأب ثلاث سنوات ثم توفي أسكنه الله فسيح جناته وابنائي مازالوا في مراحل التعليم المختلفة إلا أنه في ذلك الوقت عمل ابني وقام بتجهيز نفسه وتزوج وأبوه علي قيد الحياة, وعندما توفي زوجي لم يكن مرتبه أو معاشه يتعدي004 جنيه في الشهر. وتخرجت ابنتي الكبيرة وجاء ابن عمها لكي يتزوجها, وقفت بمفردي ولم يقف بجواري إلا الله عز وجل, واستطعت بالفعل أن أشتري لها من الجهاز ماكان يحكي جميع الناس عنه, ثم تخرجت الثانية وجاء لها ابن الحلال وزوجتها, و كان قلبي وقتها يدق بالفرح لأني أراهم يصلون إلي ما كنت أحلم به لهم, ولكن هنا جاءت الصاعقة التي كادت تقصم ظهري وهي موت ابني فجأة نتيجة هبوط حاد في الدورة الدموية, كما ذكرالدكتور, ولكني في ذلك الوقت قررت أن أكتم حزني علي فراق ابني وعزيزي ونور عيني بداخلي لكي أكمل مسيرتي, ولكي أصل بباقي بناتي إلي بر الأمان الذي عشت عمري كله أحلم به. وبالفعل تخرجت الابنة الثالثة في كلية الألسن وجاء زميل لها في العمل ليتقدم لخطبتها ووافقت أنا بعدما تأكدت من أخلاقه وعانيت الكثير لكي أجهزها, وساعدني الله علي ذلك ولكن لقرب سن ابنتي الثالثة والرابعة في العمر وجدت نفسي أستقبل عريس ابنتي الرابعة بعد زواج أختها بقليل, وأيضا رأيت انه شاب محترم ووافقت, وكان يعلم الله وقتها مدي فرحي به ومدي تألمي لعدم مقدرتي علي تجهيز ابنتي الرابعة, ولكن في هذا الوقت توفي جد أولادي وعانيت الكثير لكي أتسلم ميراث بناتي من عمهن الظالم الذي جزاه الله الآن بذنب ما فعله بي أنا وبناتي في المحاكم وأصيب بالشلل اللهم لا شماتة, ولكن إن ربك لبالمرصاد وعندما رأيت في هذا الوقت أن القضايا في المحاكم سوف تأخذ وقتا طويلا وعريس ابنتي الرابعة قد جهز كل شيء لجأت إلي أن أقوم بتحويل معاشي لبنك بريوس لكي أجهز ابنتي, وكثرت ديوني والتزمت بأن أدفع022 جنيها شهريا لمدة06 شهرا من معاش لا يتعدي006 جنيه في الشهر. وفي ذلك الوقت حصلت ابنتي علي49% في المرحلة الأولي من الثانوية العامة علمي رياضة وصدمت بالامتحانات في المرحلة الثانية ووصل مجموعها الي78% وضاع حلمها الذي كثيرا ما عملت من أجله, حلمها بأن تدخل كلية الهندسة, فأقسمت ألا أراها هكذا, وأقف عاجزة, فوجدت أن ما أخذته من ميراث الجد يكفي أن أقدم لها في كلية الهندسة الخاصة وأدركت وقتها أن المعيشة سوف تكون أضيق, ولكن ستكون حياتها أوسع وأقيم وأقدر, فقمت بتقديم ورقها في إحدي كليات الهندسة الخاصة وهي الآن بالسنة الثالثة في قسم الاتصالات والمعلومات وهي دائما ما تطلب مني أن أدخل جمعية لكي أشتري لها لاب توب وعندما وجدت رسالة أم البنات حلمت بأن تساعدني كما ساعدت هذه الأم المثالية. أما عن البنت السادسة فهي الآن في الصف الأول الثانوي وأتمني لها أن تسير علي نهج اخواتها, ولكن قضيتي الآن سيدي هي أنني مهددة بالطرد من شقتي التي طالما حاولت أن أوفر شيئا لكي أسدد إيجارها, ولكني لم أستطع فزاد الايجار علي ليصل إلي سنوات طويلة, لذا أطلب منك سيدي أن يتدخل أحد من قرائك القادرين لكي أكمل مشوار حياتي دون أن ألجأ لأحد أو أقلل من عزة نفسي أمام أحد. وأخيرا سيدي أنا سعيدة جدا لأني تجاوزت خجلي وتجرأت حتي أتكلم لأول مرة في حياتي وأحكي لك عن مشوار حياتي الذي أتمني أن أكمله. سيدتي العظيمة.. ما أروع رحلتك الشاقة التي تكشف عن جوهر الأم المصرية التي قد تغيب عنا فنظن أنها قد اختفت من حياتنا. إنك يا أمي تستحقين كل تكريم ومحبة وشكر, لإنك عشت حياتك في معاناة صعبة لتمنحي الحياة والسعادة لبناتك اللائي حتما يفخرن ويتباهين بك, فمن له أم مثلك يكون قد أمن الدنيا والآخرة بإذن الله. سيدتي.. واصلي رحلتك, ولا تقلقي, فسيرعاك الله ويحفظك, وما نحن إلا وسائل سخرها الله لتكون في خدمتك, لذا أستميحك عذرا أن تتفضلي وتتكرمي بزيارتي في المكتب بجريدة الأهرام الأربعاء المقبل في الخامسة مساء, وستجدين بإذن الله ما يطمئن قلبك ويعينك علي ما هو قادم وسعيد إن شاء الله.