في أحد المواني الواقعة علي الشاطئ الغربي لأوروبا, استلقي رجل رث الثياب في قارب صيد يملكه, وغفا. كان سائحا قد فرغ لتوه من وضع فيلم ملون جديد في كاميرته الفوتوغرافية, ليلتقط صورة لذلك المنظر الخلاب الذي تبدي من خلال توازن علاقات الأشكال والألوان وتآلفهما, حيث تمظهرت تفاصيلهما في سماء زرقاء, بحر كساه اللون الأخضر, تتابعت أمواجه في وداعة يعلوها زبد ناصع البياض, قارب أسود, برييه أحمر يعتمره الصياد النعسان. ضغط السائح علي زر كاميرته, فأصدرت صوتا يعلن عن إتمام التقاط الصورة, لكنه عاود الضغط مرة ثانية للتأكيد, وكرر لمرة ثالثة إمعانا في الاحتياط. داهمت الصياد النعسان تلك الأصوات الخشنة المتتابعة فأيقظته. اعتدل الصياد الذي لم يفر النوم من جفنيه بعد, وراحت يده تتصيد علبة سجائره. وقبل أن تصل إليها يده, كان السائح المتحمس قد أسرع في تطويقه, بأن مد علبة سجائره حتي أصبحت قرب أنفه, ووضع السيجارة في كفه, ومن فوره ضغط علي زر ولاعته لكي يشعلها له. ولأن الفعل الإنساني يظل ناقصا مالم يكتمل بالكشف عن أهدافه, لذا فإن هذه الحركات السريعة المتتابعة الطارئة التي تتسم بالمبالغة والتهديب, تستخفي ظرفا تستهدفه, وهو ما شكل للصياد حيرة مشوبة بالتوتر, لعدم فهمه مغزي هذه المبالغة من شخص لا يعرفه. لكن السائح المتمكن من لغة البلد, حاول التغلب علي هذه الحيرة وتجاوزها, بالحديث معه منطلقا من امتداد سياق ظروفه العملية الحياتية. راح السائح يغوي الصياد لمبادلته الحديث, مستندا إلي دغدغة طموح أفق يومه العملي, وذلك بأن زف إليه خبر اتساع كسبه قبل حدوثه, إذ بشره استباقا بوفرة صيده القادم في راهن يومه. لكن يبدو أن الصياد كان يفضل عزلته, ولا يرغب في النقاش ومبادلته الحديث, وعزز ذلك بتجل واضح لدلالة رفضه مواصلة الحديث, بإحجامه عن الرد علي السائح بالكلام, مكتفيا بهزة رأسه, نافيا ما سمعه من السائح. ولأن الكلام أصلا يمتلك إمكانية توليد حدود المعني المقصود, ولأن إجابة الصياد الصامتة تبدت للسائح بما يعني أن بشراه إليه مغلوطة, لذا جاء رد السائح وفقا لما فهمه من اللغة الصامتة الملتبسة, ليؤكد عدم استحالة بشراه أو غموضها, لاعتمادها علي التجربة الحياتية المباشرة, إذ إن الطقس اليوم علي الحقيقة جد ملائم للصيد الوافر. لم يتخل الصياد عن لغة الإشارة الصامتة التي تخضع لمنطق ثنائية الدلالة إما بالسلب وإما بالإيجاب فقط, ولا تنفتح علي بعد تطوري اجتماعي في التداول والنقاش, لذا أومأ الصياد برأسه موافقا ومصادقا علي ما طرحه السائح, ويبدو أن السائح أدرك أن الاحتمال المؤسس لموقف الصياد, لابد أن يكون قد تأتي نتيجة قرار ذاتي بعدم خروجه للصيد, فحاول السائح استيضاح الصياد في مدي صحة أنه لن يخرج للصيد, فإذ به يهز رأسه بالنفي. ازدادت عصبية السائح, حيث لم يجد أية مقاربة فاعلة تخرج الصياد عن صمته ليحاوره. تري هل هذا الإنسان الرث الثياب يشغل باله بشيء أقعده عن الخروج, وأحزنه أن تضيع منه فرصة الصيد الوافر, مما جعل عقله غير قادر علي إيجاد أمكنة الكلمات التي تؤسس للتحاور, فآثر الصمت؟ لقد بلور السائح اكتشافا مفاده لابد أنه يعاني مرضا منعه من الخروج للصيد, ثم واجه الصياد به. انتفض الصياد ناهضا, وراح يتمطي كاشفا عن تميزه بجسده الرياضي أمام السائح, ليؤكد له تمام عافيته واقتداره, بل انتقل أخيرا من لغة الإشارة إلي لغة الكلام, معلنا أنه يستشعر نفسه أسعد حالا من أي وقت مضي. صحيح أن الاقتدار علي العمل يحمل في ذاته إمكانية توظيفه بما يحقق لصاحبه نوعية حياة أفضل جودة مما يعيشها, لكن هل صحيح أن هناك من يصادر اقتدار الصياد ويحصره في سياق هذه الحياة, ولا يدفعه إلي تنميتها, وتطويرها لينال استحقاق اقتداره, ويحقق سعادته؟ بعد أن اكتشف السائح اقتدار الصياد علي العمل, اعتصر قلبه سؤال لم يستطع أن يكبحه, إذ طلب إليه أن يفصح له عن سبب عدم خروجه للصيد, فأجابه الصياد مبررا ذلك بأنه قد خرج في الصباح, وحقق صيدا وافرا, لذا فهو ليس بحاجة إلي الصيد مرة أخري. استشعر الصياد أن ملامح وجه السائح المقلقة تعبر عن هموم لا أساس لها, لكنه تأثر بها, فعبر الجسر المفقود بينهما بأن ربت علي كتف السائح, وتدفق في الحديث معه, ليبريء وجدانه من إشفاقه عليه, بل إنه لكي يخفف عنه قلقه, أخبره أن لديه طعاما يكفيه لمدة يومين. لا شك في أن دلالة طموح الصياد تكشف عن مستوي وعيه, ومفهومه لمعني الحياة, وتؤكد أنه لا رؤية أو أفق أمامه, إذ يكتفي من الحياة بغطاء يومين لطعامه, حيث لا حافز فكريا يدفعه إلي أن يتحرر من واقعه بمستواه الشاحب, فيحرم بذلك زمن حياته بعده الثالث, وهو المستقبل, إذ هو مسكون بعزلة داخلية تحجب عنه القيم التي تضفي علي الحياة معني, وأهمية, ودلالة أكبر من مجرد الحصول علي الطعام, والمثابرة علي النوم, في حين أنه يمتلك اقتدار صناعة حياة مغايرة لتلك الحياة الرثة التي يعيشها. تري هل يتعامي الصياد عن هذه الحياة المغايرة, أو يتجاهلها, أو يجهلها؟ يبدو أن السائح قد أدرك أنه يجهل تلك الحياة المغايرة, لذا جلس إليه مكرسا اهتمامه للكشف عن الطريق الذي لم ينطلق فيه الصياد بعد, وفقا لاقتداره. لقد ارتكز السائح في حواره معه علي تحفيز خياله إلي كل ما ليس متحققا في حياته, شحذا لوعيه, منطلقا من حقيقة امتلاكه الاقتدار علي العمل, بوصفه رهان تغيير نوعية حياته. طلب السائح إلي الصياد أن يتخيل ما سوف يسفر عنه خروجه اليوم للصيد مرة ثانية, وثالثة, ورابعة, وليس اليوم فحسب, وإنما الغد, وبعد الغد, وفي كل يوم مناسب للصيد. قد يبدو صحيحا أن السائح يحاول فك ارتباط الصياد عن لعبة المثابرة علي النوم, وأيضا عن الانجذاب نحو التكاسل المنغلق علي عزلة تفقد الحياة معناها, لكن ما يبدو صحيحا كذلك أن السائح يعتمد في تحقيق ذلك علي أن يستولد لدي الصياد قدرة عقلانية جديدة, تتيح له تأمل ذاته, ومراجعة سلوكه في راهن أيامه, وفي حياة هي في طور المجيء, لذا سأله السائح عما إذا كان يعرف ما سوف يحدث نتيجه عمله اليومي الدءوب, فعاود الصياد استخدام لغة الإشارة الصامتة, وهز رأسه نافيا, فراح السائح يقدم له بديلا لراهنه الرث, بالكشف عن سحر نقلة التقدم والنمو, والشرح للمنهج الذي يتحقق بموجبه ذلك التقدم, مفندا مراحله, إذ خلال عام علي الأكثر يستطيع أن يشتري محركا, وخلال عامين قاربا آخر, وبعد ثلاثة أو أربعة أعوام يمكنه أن يمتلك زورق صيد صغيرا, وباستخدامه القاربين والزورق سيصطاد أكثر, بعد ذلك يبني ثلاجة أسماك صغيرة, ثم يمكنه أن ينشيء مصنعا لتدخين الأسماك, وآخر لتمليحها وتعليبها, وظل السائح يعدد تحقيبات مراحل نمو المشروع, وصولا إلي استخدام التقنيات الحديثة لتسريع النمو, مثل امتلاكه طائرة هليكوبتر يستطيع بها أن يحدد بنفسه أماكن تجمع الأسماك, ويعطي زوارقه التعليمات باللاسلكي, ثم ما يترتب علي ذلك من إمكانية تصديره للأسماك إلي الخارج, بل يمكنه أيضا افتتاح مطعم للأسماك. لكن من فرط حماسة السائح, وتوثبه في استحضار مراحل تقدم المشروع,انعقد لسانه للحظات, فانتبه لما حوله, متطلعا إلي البحر, وتلك الموجة المتهادية في هدوء التي تمرح تحتها اسماك لم يصطدها احد بعد, فهز السائح رأسه استنكارا. تري هل دلالة هذا المشهد المسكوت عنها إفصاحا, تعني الإشارة إلي ذلك الوضع المقلوب المتناقض في الواقع, بين توافر إمكانية التقدم التي تتبدي رمزا في الأسماك كثروة تتبدد, وذلك الاستسلام الرخو للتكاسل والمثابرة علي النوم, والاستكانة إلي العيش الرث, المتجلي في شخص الصياد؟ عندما توقف السائح عن مواصلة حديثه, سأله الصياد مستفسرا عما سوف يكون بعد ذلك كله, فأجابه السائح بانه عندئذ يستطيع الجلوس باطمئنان في الميناء, ويغفو تحت أشعة الشمس, ويتأمل البحر الرائع, لحظتها جاء رد الصياد بأن ذلك ما يفعله, حيث كان يجلس في قاربه بالميناء, ثم غفا ولم يزعجه إلا صوت آلة تصويره. انصرف السائح تاركا الصياد, وتبدي منكبا مستغرقا في التفكير. لقد برئ قلبه من أي إشفاق علي ذلك الصياد رث الثياب, وإن كان لم يبرأ تجاهه من بعض الحسد. إن هذه النهاية تثير الدهشة والتساؤل معا. تري هل عندما أدرك السائح أن الصياد يفتقد إدراك غياب المعني عن العمل, وكذلك عدم وعيه باستحقاقاته الانسانية التي هي أبعد من مجرد إشباع حاجاته الطبيعية, عندئذ استشعر السائح أن أمر الصياد يدعو إلي السخرية, لذا بريء قلبه من الاشفاق علي رثاثته بحكم أنها نتاج مسئوليته واختياره؟ إن الكاتب الألماني هاينرش بل(7191 5891), في قصته التي بعنوان من نوادر هبوط أخلاقيات العمل, يطرح كيف يمكن أن تجهض قيمة العمل في بعده الاجتماعي, بل أيضا كل ما يولده من تقدم حضاري, بوصفه استحقاقا إنسانيا, فإذ به يتبدي عبثا بلا قيمة. إن ذلك يحدث تحديدا عندما يصبح الانسان تحت سلطة لا عقلانية غير واعية, تحيله إلي محض حاجات جسدية لا يغريها سوي الإشباع, فالصياد لم يكن يمتلك حالة تواصلية بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي من حوله, إذ كان يمارس نسقا سلوكيا مشروطا بهدف إشباع حاجاته, دون جهد بالاشتغال علي الأشياء, ودون جهد بالاشتغال علي الذات, فشكل ذلك نوعية حياة لا تعرف معني الوعي بتحولات التمدن الانساني ولا تدركه, عندئذ أصبح الصياد مجرد كائن منزو, مسترخ, غير قادر علي التأمل, والتدبر, والإدراك, لا يمتلك الوعي الذي يشحذ إرادة ممارسة استحقاقه لشرعية وجوده الانساني, وأيضا يستدير هاربا عن مواجهة تأهيل نفسه للجدارة التي يعتقد أنه يستحقها إنسانيا, وذلك بحكم أنه غير حائز خاصية استكشاف قيمة العمل في إقامة العلاقات ذات المعني مع حقائق عالمه الواقعي, ونسيج المجتمع الذي يحيا فيه, انطلاقا من أن الواقع بحقائقه هو التحدي الأول للوعي الإنساني, بل إنه المفجر لاقتدارات الوعي الإنساني, التي تتجلي في تعدد صيغ العمل وتنوعها, سواء أكانت إبداعات فكرية واكتشافات علمية, أو منتجات مادية, أو ممارسات تحقق للمجتمع تطوره وسلامته. صحيح أنه بدون العمل يصبح الانسان شيئا بين الأشياء, لكن الصحيح كذلك أن العمل يعني بالضرورة انخراطا فعالا يتسم بالمشاركة مع آخرين, أيا ما كانت صور تلك المشاركة, إذ يتحدد معيار العمل في أنه بالأساس يعكس علاقة جوهرية مع الآخرين, ويستهدف جلب النفع العام والخاص الذي يحمي التكامل الاجتماعي وينميه, فيحرر الإنسان من اعتقاله داخل سجن واقع يكبل وعيه, وتطلعاته إلي استحقاقاته, وآماله, وذلك بما يستحضره العمل من صيغ الاقتدار الإنساني علي تغيير الواقع, وتطويره, وتحويله, عندئذ تختفي اسباب خضوع الانسان لواقعه المغلق, ذلك الخضوع الذي تجلي في قصتنا بدلالة رثاثة الصياد فكرا, وسلوكا, وثيابا, ورفضه أي مفهوم للمستقبل, أو اعتناقه أملا يسعي إلي تحقيقه, مكتفيا برتابة حياته. المزيد من مقالات د.فوزي فهمي