لحظة مخاض صعبة وجراحة استئصالية عسيرة تلك التي مرت بها مصر علي مدي81 يوما لخلع سلطة وشل نظام ظل متمترسا علي قمة المشهد السياسي في مصر لمدة03 عاما, بفضل اليد الباطشة, وقدرته المتجذرة في الأرض بأقدام قصيرة, بسلاسل فولاذية يصعب شلها أو قطعها أو حتي حلحلتها ولو قليل. من كان منا يتصور ولو للحظة عابرة أن يهبط مبارك وأهله من أصحاب الصلف والجبروت والتعالي من أعلي كرسي السلطان, وانتهاء مملكة آل مبارك. إنه حقا كان أشبه بحلم يداعب خيال المصريين.. البعض مازال مستغرقا في هول وهوة الحدث, والبعض الآخر خطفته لحظة السقوط فأدارت عقله وذهبت به إلي الأفق البعيد في سماء مصر الزرقاء ليتذكر ويراجع ذكريات وأحداث تمر وكأنها أشبه بالشريط السينمائي الذي يضغط ويوجز الأحداث, لكنه لا ينسي تركيز بؤرة الكادر علي أحداث ومواجع مؤلمة, ومشاهد مفجعة عاشتها بلاده كانت نتاج وضع سياسات الهزائم والانكسارات السياسية والاقتصادية والمعيشية والحياتية في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة تحديدا. بدت لحظة غياب مبارك عن المشهد المصري تتبدي بوضوح وترك آثارها في جبين الوطن. بعد عام69 كان الإنزلاق الوطني نحو هوية السقوط والتراجع حيث الداخل ينهار, والخارج يقذف بالحضور والحركية السياسية المصرية في غياهب المجهول, فيتراجع الدور والمكانة وتتآكل المصداقية والحضور في الإقليم, وتتم الإزاحة بمصر بعيدا عن متاهات الأزمات التي صنعها النظام لنفسه, ومن ثم يعتلي المشهد آخرون يرسمون أضلاع مثلث إقليمي شعبوي بازغة صاعدة كإيران وتركيا مع إسرائيل ترسم ملامح خريطة شرق أوسطية جديدة بدون مصر بعد دهر من البناء والقوة والحضور الأخاذ في المشهد الإقليمي الدولي. ولأول مرة يتلاقي الفشل الداخلي مع التراجحع الخارجي ليتصف منظومة العجز والشلل المصري الكامل. وفي تقديري أن رصد وقراءة أسباب هذا العجز والفشل في الداخل والخارج معا ضروري وملح في هذه اللحظة حتي نستوعب كمصريين الدروس والعبر المستفادة وحتي نلهم قادة المرحلتين الحالية والقادمة مراجعات نقدية تستشرف أفقا جديدا, وتتجاوز سنوات الفشل العجاف, وأعتقد أن أول تلك الأسباب كان شل ورفع مبارك برغبة داخلية منه منذ مشارف التسعينيات عن متابعة ورصد وتسيير إدارة شئون الدولة حيث أصابه الملل بالفعل, فترك وفتح المجال لتسرب أشخاص من آل بيته ومكتبه لإيجاد كيانات رئاسية موازية لمنصب الرئيس تدبر وتسير أمور الوطن بمعرفتها عبر منطق أصحاب المزرعة والأبعدية الخاصة, ومن ثم توالت الأخطاء التي تحولت إلي خطايا وانزلاقات حتي كانت مرحلة الجريمة الكبري عبر تزاوج المال والسلطة, تلك المرحلة التي أشرت إلي دخول مصر نفق الفساد الطويل. ومع بداية الألفية الجديدة ترك مبارك مقاليد الأمور كاملة لآل البيت وحوارييه ليديروا بلدا بحجم مصر, وهو المغيب قسرا عن أحوال الرعية حتي نجحوا وبرعوا بالفعل في تحويل الجمهورية المصرية إلي جمهورية الفساد والرشوة, فتأتي دوما في قمة بيانات وتقارير انعدام الشفافية وجرائم الفساد, ومنذ ذلك الوقت انجرفت البلاد إلي الانهيار الكامل ودخلت نفق الشيخوخة الكاملة فتراجعت معدلات الدخل, وانزوت الطبقة الوسطي وتاهت في الهرم الاجتماعي, ولحقت بمعدلات وأرقام الطبقة المعدومة لتعتلي المشهد برمته طبقة رجال الأعمال الذين استطاعوا امتلاك دخول شهرية وسنوية تعادل ميزانيات دول عدة في المنطقة. واستطاع عز وعصابة الخمسة الكبار في مصر أن يقودوا أوركسترا النهب المالي المنظم والمتعدد السرعات مع الإبقاء علي مسافة قريبة وليست متساوية لاستكمال ومواصلة مسيرة النهب تلك لفئة قريبة منهم من رجال الأعمال والأصدقاء المقربين الذين تم الدفع بهم في وزارات الدولة لاستكمال حلقات السيناريو الذي قاد إلي إفقار المصريين وابتلاع ثرواتهم في جوف عصابات وحيتان المال الجدد في مصر, بجانب استكمال خطة تعطيل المسار السياسي في مصر عبر حالة من الانسداد والانغلاق السياسي الذي عاشته البلاد مقابل السطوة والسيطرة للحزب الوطني حتي بلغ بهم الفجر السياسي ذروته في سيناريو الانتخابات التشريعية الأخيرة نهاية ديسمبر الماضي بعد أن سعوا لإقصاء وتهميش وإلغاء الحضور والمشاركة للمعارضة والمستقلين في التمثيل بعضوية البرلمان, وهي كبري الأخطاء التي فجرت وأشعلت لحظة الغضب التي كانت وقود ثورة الشباب في الخامس والعشرين لتضع نهاية الرحيل التراجيدي لمبارك, وليفيق المصريون جميعا علي كارثة ونموذج الدولة الفاشلة الذي تجلي ليلة جمعة الغضب عندما وقعت المصادمات وأعمال القتل والترويع علي يد رجال داخلية حبيب العادلي, حيث غابت شرعية الدولة, وانكشف خداع اوأكذوبة دولة المؤسسات التي أهلكنا بها مبارك والشريف وسرور لثلاثين عاما, لنكتشف سقوط شرعية السلطة ورأس النظام خلال عدة ساعات فقط.