الشاعر كمال نشأت حلقة وصل بين الرومانسية الفردية والرومانسية الثورية, وبين مرحلة الخروج الحذر عن عمود الشعر العربي, وثورة تحطيم هذا العمود وإعادة صياغته, بعبارة أقل تعميما وتجريدا, بين اربعينيات ناجي وخمسينيات حجازي وعبدالصبور والمد الطالع من تجارب السياب ونازك العروضية. ولكن لماذا خصصت ناجي بالذكر ونسبت اليه الأربعينيات رغم أن علي محمود طه ومحمود حسن اسماعيل بجواره؟ ذلك أن حالة من التأثر تقترب من التماهي كانت تربط بين نشأت التلميذ وناجي الأستاذ, الي حد أن17 قصيدة من كتابات نشأت الأولي نسبت فيما بعد لناجي وضمت الي أعماله الكاملة. وقد صدر ديوان كمال نشأت الأول رياح وشموع(1951) وتاريخ صدوره مفصلي فكل قصائده عمودية بالمعني الأبوللي للكلمة( نسبة الي مدرسة أبوللو الشعرية الرومانسية التي تكونت في الثلاثينيات) ويبدو من العنوان انتماء الديوان بالكامل إلي رومانسية الأربعينيات. إلا أن نشأت أضاف في طبعة ثانية للديوان قصيدة قال إنه نسيها عند صدور الطبعة الأولي وهي قصيدة تفعيلة تنتمي للشعر الجديد آنذاك, يعطيها التاريخ الفضفاض الذي ذكره الشاعر أسبقية تجعلها من النماذج الأولي لهذا الشعر في مصر. يقول فيها نشأت: أنا وأنت خنجر وجرحه نظل هكذا تفوت مواكب العصور وينتهي الانسان لأنه يخلق كي يموت وهي في ظني ليست نموذجا مبكرا فحسب, بل جيد أيضا. كل ما ذكرت مستمد من المقدمة الوافية التي صدر بها أ. د. يوسف حسن نوفل كتاب المختار من أشعار كمال نشأت الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام2004 ويضم الكتاب نحو خمسين قصيدة لكمال نشأت منتقاه من رحلة شعرية طويلة بدأت من الأربعينيات ومازالت. وفي الكتاب من النماذج الجيدة الكثير لكن لن أكون جادا إذا ادعيت أن هذه العجالة يمكن ان تتعامل مع ستين عاما أو يزيد من الابداع. لهذا اصطفيت مجموعة ترتبط كلها بتجربة واحدة وكتبت في عام واحد1975 وربما في أيام أو شهور متقاربة في بداية سنين غربته بالعراق. ولن أحاول نقدا ولا تقييما, وهل ينقد التلميذ أستاذه؟ إنما أسوق بعض الابيات لكي نتأملها ونتذوقها معا أيها القارئ العزيز.. في قصيدة القاهرة وكتبها في غربته البغدادية يقول كمال نشأت: كما ارتجف الدمع حين يقول المذيع هنا القاهرة فتومض في القلب شمس وتهمي علي دفئها الذاكرة وتهدل ألف حمامة وأذكر( سافر لترجع لي بالسلامة) *** وقصيدة الليل والغريب لايمكن إلا أن نوردها كلها: إلي أين تمضي وحيدا كصبارة القبر وجهك بئر الجفاف وصمت الربابة وأحزانك المعشبات استطلن وأصبحن غابة إلي أين تمضي وليل المدينة يمتد حولك والمطر المستهل يباكي شوارعها الخاليات.. وأنت وهذي الوريقة فوق الرصيف تزوبعها الريح لا من صديق ولا من ضياء سوي ذابلات المصابيح والشقق الدافئات تسلل منهن عبر النوافذ خيط من الضوء ينبئ عن آخرين يعيشون جو الحنان وطعم الموده كوبا من الشاي لفظة ود وجلسة عائلة ما تريد؟ وكيف وأنت الغريب الجديد علي هذه البلدة المستحمة في مطر الليل أرملة كفنتها الدموع ستمشي ويرسب في قلبك المطر المتساقط في الطرقات وحيدا كصبارة القبر وجهك بئر الجفاف وصمت الربابة وأحزانك المعشبات استطلن وأصبحن غابة.. ** الشاعر الكبير كمال نشأت يستحق منا الاحتفاء بعد ستين عاما من العطاء الشعري الذي لم يتوقف حتي الآن.