لا يتضح مفهوم الجيل الأدبي إلا في إطار الاختلاف, وعلي الرغم من أن التقسيمات الجيلية الشائعة في استخداماتنا الشفهية النقدية هي تقسيمات تعوزها الدقة, بعد أن أصبحت جزءا من الفولكلور النقدي السائد , فإن هناك وجها آخر للعملة, وخيوطا يمكننا مع قليل من التأمل أن ننسج بها مشهدا كاشفا لمبدعي فترات تاريخية بأعينها عبر الموازنات, وهذا يصح إلي حد كبير علي الموازنة بين شعراء الستينيات وجيل السبعينيات الشعري. شهدت فترة الأربعينيات والخمسينيات حركة تجديدية مهمة أثرت علي الشعر العربي, من خلال جهود عدد من الشعراء المهمين الذين أكسبوا جيل الخمسينيات الشعري شرعيته, مثل بدر شاكر السياب, ونازك الملائكة, وصلاح عبدالصبور وغيرهم. في أجواء هذا التجديد الشعري نما شعراء الستينيات, هذا التيار الذي التزم عدد كبير ممن ينتمون إليه بالتقاليد الفنية لمنجزات الجيل الخمسيني, سيرا علي خطي السلف, وتمسكا بالسقف الجمالي الذي رسمته تقاليد حركة الخمسينيات الشعرية المصرية والعربية آنذاك. هناك نقاد, أتفق معهم, يذهبون إلي أن تعبير الجيل الشعري يصح إطلاقه بمعناه الأدبي المحدود علي شعراء الخمسينيات المصريين, وعلي شعراء السبعينيات المصريين, لكنه لا ينطبق علي الشعراء الستينيات, برغم تقديرنا الشديد لدورهم الذي يلعبونه كل يوم في حركة الشعر المصري المعاصر, وأظن أنني لا أعدو الحق إذا قلت إن شعراء الفصحي الستينيين كانوا يشكلون في مرحلة الستينيات امتدادا مخلصا لمنجزات جيل الخمسينيات المصري والعربي دون إضافات بنائية مؤثرة. ذلك علي خلاف شعراء العامية الستينيين, الذين تركوا أثرهم الملحوظ في تطور شعر العامية المصرية, نذكر من هؤلاء فؤاد حداد, وصلاح جاهين, وسيد حجاب, وغيرهم. ولرأيي هنا استثناءات أذكر منها تجربة الشاعر السكندري الكبير عبدالعظيم ناجي, الذي لم تلق نصوصه المهمة ما تستحقه من اهتمام حتي الآن. علي مستوي التقويم, يمكن القول, إذا أردنا قليلا من التعميم, إن الأعمال الأولي لمعظم شعراء الستينيات, من خلال خلاصة الدرس المتأني لدواوينهم القليلة الصادرة في تلك الحقبة, قد عانت من وطأة فضاء رومانسي قديم في موضوعه ومبناه, وجاءت أعمال عدد كبير منهم تعبيرا مباشرا عن حراك الثورة آنذاك, فشاركوا عميقا في صوغ أدبيات المرحلة, وأسهموا فعليا في تشكيل سياقاتها السياسية والفكرية والأدبية, ولايعني هذا أن الاختلاف كان غائبا مع المؤسسات القائمة وسياساتها, لكنه كان اختلافا محدودا يجري دائما في إطار الشرعية, ولايجاوزها, وهي سمة حاسمة لحراك هذا الجيل علي المستوي الثقافي. هكذا بدأ حضور ما يطلق عليه جيل الستينيات الشعري في حضن المؤسسات القائمة, فهي التي احتفت بهم, وطبعت أعمالهم, واحتضنت كتاباتهم, فعبروا عنها, وعبرت بهم, من هنا نستطيع أن نفهم لماذا كانت معظم النصوص الشعرية الستينية في ذلك الحين, وفي هذا تعميم لا مفر منه في هذه المساحة الضيقة, مهتمة بالتعبير عن الواقع أكثر من اهتمامها بالكشف والتجديد. كان طموح المرحلة السياسية الستينية, في خطابها السياسي علي أقل تقدير, موازيا لطموح الناس, إن لم يكن محلقا إلي ما هو أبعد من ذلك, خصوصا قبل النكسة, من أجل هذا كان التفاف الجمهور حول الأدب الستيني بعامة قويا, لأنه عبر عن المرحلة التاريخية التي يعيشها المواطن, مرحلة ذات أحلام واضحة, وخطاب مستقر, وسياق شمولي واحد, فجاء معظم النتاج الشعري الستيني محملا ببعد اجتماعي مباشر في موضوعه, واستمر في حركته بعد ذلك ملتزما ما بدأ به, ولكل تعميم استثناءات, لكننا نحاول في هذا المقال الموجز أن نوازن بين حضورين شعريين من خلال توظيف مفهوم الجيل, قدر إمكاننا. هكذا ارتبطت مساحة كبيرة من مشروع شعراء الستينيات الإبداعي باللغة العربية في أرسخ صورها التعبيرية من جهة, وبالابتعاد عن التجريب, والالتزام بالمدونة الإيقاعية العربية, فضلا عن محاربة الأساليب الشعرية الجديدة وعلي رأسها قصيدة النثر من جهة أخري, وكانت جماليات نصوصهم الشعرية أدخلت في جماليات الشفاهة, وارتبطت بمحاكاة الواقع المباشرة علي مستوي الخيال, كما جاءت معظم نصوص هذه المرحلة, ونحن هنا نتكلم عن ملامح عامة لتجربة لها استثناءاتها, مرتبطة بالإرشاد, والوعظ, وأحاديث الذكريات, وبالعاطفة الرومانسية الجياشة, وذلك من خلال تصور نظري سائد ينظر إلي الشاعر بصفته معلما, وحامل رسالة, ورائد منبر, ومناسبة. فكان موضوع القصيدة أهم من اجتهادها الجمالي, علي مستويي المضمون, وشكله, ولم يكن مقبولا لدي عدد كبير من شعراء الستينيات أن يبدعوا صورا لا يمكن تخيلها علي نحو بصري مباشر, ورأوا في ذلك لعبا باللغة, فأثر هذا الفهم المحدود لعلاقة الشعر باللغة علي ثراء معجمهم اللغوي, وأضعف حضور العلاقات اللغوية الجديدة في نصوصهم, وذلك باستثناءات قليلة كنا نجدها عند محمد عفيفي مطر علي سبيل المثال, الذي رآه عدد منهم غامضا وصعبا, ومفسدا لهدوئهم الجمالي. كان لنكسة7691 م, أثر هائل علي وعي تيار الشعر الستيني المصري الذي اتجه إلي التعبير عن أدب الهزيمة علي مستويات مضمونية عديدة, وبطرائق مختلفة, منها توظيف شخصية البطل المخلص, التي سيطرت علي عدد كبير من الأعمال الشعرية في دواوين هذه المرحلة وما بعدها, ومن ذلك أيضا رجوع شعراء هذه المرحلة إلي تراثنا التاريخي من أجل توظيفه المباشر في نصوصهم, بحثا عن انتصار يعوضهم عن الشعور بالهزيمة, دون قدرة علي مجاوزة هذا الوعي علي الجانبين الموضوعي والجمالي. الأمر الذي كبل النصوص الشعرية إبان تلك الفترة بقيود أوصلتها إلي أزمة جمالية حادة. هكذا جاء الحراك الشعري الستيني علي عكس حراك جيل السبعينيات الشعري الذي شب علي خطاب سياسي قومي, كانت له أحلام ربما أبعد مما يستطيع الحصول عليها, وكان شاهدا بعد ذلك علي خطاب سياسي مناقض لاتجاهات المرحلة الناصرية, علي المستويين السياسي والاقتصادي, وهو وضع كان له أثره في دفع جيل السبعينيات الشعري إلي الاختلاف مع كل الشرعيات من شرعية الواقع إلي شرعية القصيدة. وكان الرمز الكثيف في أعمال السبعينيين وسيلة في نصوصهم الشعرية عن الاضطراب أكثر مما تخفيه, هذا الاضطراب الذي ظهر محملا بالأسئلة! فحاولت لغتهم الاستعارية القوية في نصوصهم الشعرية البحث عن عوالم ممكنة وجديدة لا تتصالح مع واقع مضطرب يرفضونه. وأظن أنني لا أعدو الحق لو قلت إن شعراء الستينيات هم امتداد هادئ لسلفهم الشعري في ألطف صورة, وأكثرها التزاما ومباشرة, هذا علي خلاف جيل القصة والرواية الستيني الذي حظي بأسماء لها منجزها القوي المتجدد علي المستويين المضموني والشكلي معا مثل يحيي الطاهر عبدالله. وصنع الله إبراهيم, ومحمد البساطي, وإبراهيم أصلان, ومجيد طوبيا, وغيرهم. إن لتعبير الجيل الأدبي مفهوما يرتبط علي نحو مباشر بالحركة والتجديد, ولا يطلق علي أدباء حقبة ما إلا حين يرتبط بوعي جمالي جديد يكسبه هذه الشرعية, وعي يعبر عن انقطاع ما في سيرورة جمالية مهيمنة, وعي لا يضفي حمايته علي طرائق الكتابة التي تتحاشي السؤال, وتتجنب المساءلة. ..وللكتابة بقية.