لعل الكلمة المحورية التي ميزت حياة أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد هي الوطنية.. بكل دلالاتها ومعانيها ومشتقاتها ومساراتها وأعبائها الثقال, التي لا ينهض بها إلا أولو العزم من الرجال, الذين تصالحوا مع أنفسهم ووطنهم, وأخذوا علي أنفسهم المواثيق والعهود بضرورة التنحي عن الشخصي في سبيل ما هو عام, فلم يخلطوا الأوراق ولم تشغلهم همومهم الفردية عن تمثل الهم الوطني والقومي والتعايش معه ليل نهار. في هذا السياق, ومن منطلق إدراك مفتاح شخصيته ترنم أستاذ الجيل بعدد من القضايا الوطنية التي يمكن استكشاف أبعادها في كل مراحل حياته, من قبيل الرصد والتسجيل, في عشرة مرتكزات يحسن تأملها, كلما أحيت جامعة القاهرة ذكري تأسيسها والاحتفاء بروادها: أولا: منذ المرحلة التعليمية والعلمية لعب أحمد لطفي السيد دور المراقب والمتابع لأحداث الوطن, حيث جمع بين ثقافته التراثية في مرحلة الكتاب والمدرسة, منتقلا إلي مرحلة الفتوة والشباب, حيث شغل فيها بتحصيل العلم القانوني والسياسي, وحرص علي استيعاب ثقافة الآخر الأوروبي, وإتقان الفرنسية, متنقلا بعدها عبر عدد من المهام, بين النيابة العامة والمحاماة والعمل بالسياسة, إلي احتراف الصحافة, التي صار فيها رائدا من مؤسسي الفكر, علي مدار ثماني سنوات من7091 إلي5191 وخلالها برز تأثيره في كوكبة من المفكرين وصناع المواطنة, من تلاميذه ومريديه. ثانيا: لم يعش أستاذ الجيل أسيرا لمنصب أو مهنة بعينها, وكأنما حمل علي عاتقه تفعيل شعار( الحرية).. الذي اتخذه محورا لحياته المهنية, التي آمن خلالها بمحاسبة ذاته كل يوم, علي ما قدمت من عمل أو ما لفظت من قول أو ما خطر له من خاطر.. وقد شغلته طويلا( الحالة المصرية).. عبر تدرجه بين المناصب, منذ عين في النيابة العامة, فكان دائب التفكير في وضع مصر ومعاناتها بسبب الاحتلال البريطاني, وعندئذ شارك في انشاء جمعية سرية غرضها( تحرير مصر).. مع أقرانه عبدالعزيز فهمي وأحمد طلعت وحامد رضوان ومحمد بدر الدين وعبدالحليم حلمي. وفي عام5091 استقال من النيابة العامة لخلاف في الرأي القانوني بينه وبين النائب العمومي( كوريث بك).. ووقتها آثر العودة إلي بلده, ثم اشتغل بالمحاماة, ثم تركها غير نادم, لينصرف إلي العمل بالسياسة والتحرير في صحيفة الجريدة.. التي تولي تأسيسها ورئاسة تحريرها. ثالثا: ظل إخلاص أحمد لطفي السيد مدخله الأساسي عبر بوابة( الوطنية).. التي طالما انخرط فيه منذ اجتمع مع مصطفي كامل وبعض زملائه في منزل محمد فريد لتأليف الحزب الوطني كجمعية سرية.. رئيسها الخديو الذي أطلقوا عليه لقب( الشيخ) ومصطفي كامل( أبو الفدا) وأحمد لطفي السيد( أبو مسلم).. وشاركهم في العضوية سعيد الشيمي ومحمد عثمان والد أمين عثمان, وظل إخلاصه مهيمنا علي عقله ووجدانه طوال فترة نضاله السياسي والصحفي والثقافي, متخذا مبدأ حياته من شعار( مصر للمصريين).. فلا يحرر مصر إلا أبناؤها, مما جعله أشد حرصا علي منطق استقلاليته من واقع حبه لمصر, حتي لو أبعده ذلك حينا عن طبيعة رؤية الخديو عباس أو مصطفي كامل, في استمرارية الولاء للخلافة العثمانية, حيث رأي لطفي السيد أن كل صور التدخل في شئون مصر هي شر مستطير, من أي جهة كانت, وعندئذ تحول إلي فيلسوف حزب الأمة, فكان من أبرز فصحائه الذين تمتعوا بلغة ناصعة, لا سيما حال الحديث عن الحرية التي رآها صنوا للحياة, ورأي فقدانها هو الموت, والحرية بمنطوقه الثري في مقالاته هي الغذاء الضروري لحياتنا, وهي إرضاء للعقول والقلوب وبدونها نموت. رابعا: كان انصرافه إلي العمل الصحفي تأكيدا لما تميز به من شفافية وموضوعية ونزاهة ومصداقية, عبر إيمان ويقين ناصع بعقلانيته المتميزة التي غذتها لديه حرية الفكر وحرية التعبير وحرية المشاعر, التي طالما أطلق صيحتها من واقع رؤيته للمرء, وقد خلق حرا في كل شيء, ومن واجبه ومن حقه أن يحافظ علي حريته حتي في غياهب السجن, ما دامت روحه في جسده, وهو ما انطلق منه إلي حرية الأمة, منذ حاول الاستفادة مع أصدقائه الأربعة سعد زغلول وعبدالعزيز فهمي وعلي شعراوي ومحمد محمود من المباديء التي أعلنها الرئيس الأمريكي ويلسون آنذاك وكان في جملتها أن كل أمة مهما صغرت لها الحق في اختيار مصيرها, وتقرير الحكم الذي ترضاه بمحض إرادتها وحريتها. خامسا: كان انصرافه إلي العمل الوظيفي بدار الكتب المصرية بحثا آخر عن مساحات جديدة في عالم الحرية, من المنظور العملي المحض, منذ اعتزل السياسة بعد الخلاف بين سعد وعدلي يكن باشا علي رئاسة المفاوضات, وتحول الأمر إلي خصومة.. فآثر العودة إلي دار الكتب ليترجم مؤلفات أرسطو, كما شغل بأمر الجامعة المصرية التي كان رشدي باشا رئيسا لها, وكان هو وكيلا لها, ليضع للجامعة منهاجا تفرد به, وإذا به يترجم كتاب( الأخلاق).. وهو كتاب يعد مقدمة لكتاب السياسة بهدف إنارة قراء العربية علي حد تعبيره. سادسا: ظل الاستثناء واردا في ملامح شخصية أحمد لطفي السيد عبر موقعه مديرا للجامعة المصرية بكل قيمها وأعرافها وثوابتها وتقاليدها الراسخة, منذ نال رئاستها عن استحقاق وجدارة, بكل الأنفة والكبرياء, دون أن يستعبده كرسي الإدارة, بقدر ما دعاه إلي جعل الجامعة منبرا حقيقيا لحرية الرأي وحرية التعبير والتقدم والبحث العلمي, في نفس الوقت الذي أسس فيه لمفهوم استقلال الجامعة عن الحكومة, ورفض أي صورة من التدخل في شئونها, ليظل استقلالها محل الاحترام وموضع القداسة, مؤكدا ذلك بسلوكه الجسور وشجاعته النادرة, حين اعتدت وزارة المعارف علي هذا الاستقلال عام2391 بنقل طه حسين من عمادته لكلية الآداب إلي وظيفة إدارية بديوان الوزارة, دون أخذ رأي مدير ومجلس الجامعة, فقدم أستاذ الجيل ومدير الجامعة الفذ استقالته, تضامنا مع تلميذه طه حسين, ضاربا بذلك المثل والنموذج في احترام القيادي لذاته واعتزازه بحريته, بعيدا عن إغراء المنصب وجاذبيته. سابعا: أن رئاسة أستاذ الجيل لمجمع اللغة العربية, إنما جاءت تتويجا لأدائه اللغوي الفصيح ومنهجية فكره الراسخ, بما تميز به من رصانة اللغة. وسلامة المنطق ووضوح الرؤية وحسن المقاصد وصحة الغايات, مما جعله مفكرا جادا متحضرا يفوق النظراء في عصره, منذ إصراره علي إعلاء حرية الفرد وحرية الأمة, إلي امتداد مفهوم الحرية لديه إلي القول بحرية المرأة, وعدم مصادرة آراء شباب الجامعة من طلاب المعرفة والعلم, بقدر ما دعاهم مرارا إلي حرية التفكير والتعبير, ومن ثم كانت مطالبته بحرية التعليم من خلال التعليم الجامعي, مع حرصه علي توجيه التربية والتعليم توجيها وطنيا وقوميا, كان له أثره الواضح فيما وصلت إليه مصر من استقلال تام وحرية كاملة بانشاء الجامعات التي حرص الرجل علي استقلالها منذ نشأتها. ثامنا: تأكد صدق أستاذ الجيل مع ذاته ومجتمعه ووطنه وأمته, من خلال مفاهيمه الواضحة, حول أوضاع السياسة المصرية, منذ أطلق صيحته المشهورة( مصر للمصريين).. بما أعلنه في أول مقال دبجه علي صفحة( الجريدة).. التي رآها صحيفة مصرية تدافع عن مصالح المصريين, شعارها الاعتدال الصريح ومراميها إرشاد الأمة المصرية إلي أسباب الرقي الصحيح, وإخلاص النصح للحكومة والأمة بتبيين ما هو خير لها وأولي, علي أساس من حسن الظن, من غير تعرض للموظفين والأفراد في أشخاصهم أو أعمالهم, التي لا مساس لها بجسم الكل الذي لا ينقسم وهو( الأمة). تاسعا: يظل من صفحاته الناصعة حرصه علي ترسيخ مفهوم الوحدة الوطنية, والبعد عن التعصب الديني منذ إدراكه المبكر وقد حفظ القرآن الكريم في قريته( برقين) في سن مبكرة بأن الدين الإسلامي يأمر بالتعاون والتعاضد والائتلاف بين أفراد الأمة, كما يأمر بالعدل والإحسان, ويوصي خيرا بالمتحالفين له من أهل الأديان الأخري, عبر الصور المستفيضة من الفقه, وليس من مبادئه مطلقا التعصب الشائن, بما فيه من افتراءات خصوم الإسلام, مؤكدا مقولته من واقع تعايش الأقباط في مصر مع المسلمين.. مختلطين في المصالح والمساكن.. متكاتفين في المزارع والأعمال.. متجاورين علي مقاعد المدارس.. متشاركين في الوظائف والمرافق, ولم يسمع منذ زمن بعيد أن المسلمين أمرهم الدين إلا بحسن المعاملة فيما بينهم وبين الآخرين علي السواء. عاشرا: استطاع أستاذ الجيل أن يجمع في عبقرية نادرة بين مختلف الاتجاهات التي عاشها أو استشعرها, دون تناقضات أو معاناة الانشطار الداخلي بين جناحي ثقافته التراثية والمعاصرة, بين ما هو عربي وما هو غربي, وبين ما عاشه علي أرض الوطن, وما شاهده خلال أسفاره التي دفعته إلي الكتابة عن فوائد السفر إلي الخارج, جمعا بين تصحيح المفاهيم حول باريس مصورة بين دواعي الجد والهزل, كما شغله أمر الإنجليز في بلادهم ليأخذ موقفا من بعض المصريين الذين يتكلمون الفرنسية أو الإنجليزية بينهم في بلادهم, وما هم بذلك بمحتقري لغتهم وإنما يجيدونها ويحترمون ثراءها. من هذه المرتكزات العشرة وأمثالها يمكن استكشاف معالم شخصية أحمد لطفي السيد, ليظل أستاذ الجيل علامة فارقة علي طريق الوطنية, في أفضل تجلياتها ومعالمها, حيث كان قلمه معبرا عن عواطفه الجياشة إزاء بلده( مصر).. علي غرار قوله:( إن مصريتنا تقضي علينا أن يكون وطننا هو قبلتنا, وأن نكرم أنفسنا ونكرم وطننا, فلا ننتسب إلي وطن غيره, ونخصه بخيرنا والانتساب إلي مصر شرف عظيم اعتدادا بدورها في الحضارة, وما لها من الثروة الطبيعية والتاريخية, بما يضمن لها إحياء مجد الأولين). كما كشف أستاذ الجيل عن خطأ الجماهير في فهم أغراض الجامعة خاصة تجاه قبول الفتيات المصريات بوصفهن طالبات في الأسرة الجامعية, وهو ما طبقه عمليا وبذكاء شديد في قبول طالبات البكالوريا ببعض الكليات, حيث وضع المجتمع أمام الأمر الواقع, تطبيقا لصيغ التطور الاجتماعي, في منح الفتاة المصرية فرصة التعليم مع الطالب المصري, والانتقال من محاضرات الثقافة العامة التي كان يشرف عليها يوميا رئيس الجامعة, وصولا فيما بعد إلي إرسال البعثات العلمية إلي الخارج, وعلي الجانب الآخر من كتاباته ظهرت المرأة الفاضلة التي تكون أنفع للأمة من الرجل الفاضل, وليظل تعليم المرأة هو اساس الإصلاح الاجتماعي. هكذا بدت رحلة حياته الثرية.. أستاذا ومعلما.. وباحثا وكاتبا وسياسيا ماهرا, إلي جانب أدواره التي ترك فيها آثارا لا تنسي, فما زالت جامعة القاهرة تعقد مجالسها العليا في قاعة أحمد لطفي السيد, احتفاء بدوره الوطني والتاريخي. رحم الله أستاذ الجيل, ونفع بعلمه وشموخه وأنفته وفكره وفلسفته ومعارفه وأفكاره الأجيال, ليظل علامة مضيئة بين جنبات الجامعات, عبر كل أرجاء مصر, التي أحبها وأحبته, فكان نعم النموذج للوطني الأصيل.