مع نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة يمكن أن نتلمس اتجاهات متعددة علي مستوي الأفكار والسياسات في العالم, تتوقف أمام محصلة هذا العقد, الذي شهد أحداثا كبري, لكي تراجع بشكل نقدي كتابات وفلسفات وافتراضات, صاغت أبعادا كثيرة من السياسات. إن الألفية الثالثة التي بدأت بآمال عريضة, لتحقيق الأمن الإنساني للبشر, وشهدت تصديق رؤساء دول العالم علي الالتزام بالأهداف الانمائية للألفية الثالثة, وما تضمنتها من تحديات لمواجهة الفقر وتحسين نوعية التعليم والصحة وتمكين النساء, وغيرها, قد تلاها أحداث كبري.. لعل أولها أحداث سبتمبر في الولاياتالمتحدةالأمريكية عام2001, التي امتدت تداعياتها إلي كل مكان في العالم باعلان الحرب علي الإرهاب, ثم تشكيل تيارات قوية مناهضة للإسلام, ومحاولات هنا وهناك للحوار بين الأديان وليس الحضارات.. ثم تأتي أحداث الغزو الأمريكي للعراق, وكل ما تضمنته من تدمير وعنف, ومن صراعات طائفية, لكي تضيف إلي العقد الأول من الألفية الثالثة المزيد من التفاعلات والانعكاسات, التي أعادت تشكيل الخريطة الإقليمية العربية, وأثرت علي الفاعلين الرئيسيين في العالم وفي المنطقة العربية.. العقد الأول أيضا من الألفية الثالثة_ بأحداثه وتداعياته- قلص إلي درجة كبيرة فرص وإمكانات السلام, فالديمقراطية التي أوصلت حماس إلي السلطة, قد صاحبها وتبعها صراع فلسطيني- فلسطيني, وصراع عربي- عربي, وإعلان حرب مدمرة علي غزة.. ثم نصل إلي إخفاقات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية, وما يعرف بالعجز الديمقراطي( أو تجديد النظم السلطوية) وبصحبته تيارات دينية متشددة, وإخفاقات في السياسات التنموية, وتعميق لفجوات العدالة الاجتماعية. هذا السياق العالمي والإقليمي, بلغت أحداثه الذروة, بالأزمة المالية العالمية, والتي لم تعرف الحدود الجغرافية, وامتدت إلي أغلب دول العالم.. إن تعاظم هذه الأحداث, وغيرها الكثير, في السنوات العشر الأولي من الألفية الثالثة, والتي طرحت بقوة أفكار العولمة والكونية, بما تتضمنه من ابعاد سياسية( تعميق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان), وابعاد اقتصادية( تحرير قوي السوق والتجارة الدولية) وأبعاد تكنولوجية واتصالية, قد دفع إلي إعادة النظر في فلسفات وأفكار كبري, بدت كمسلمات صاغت سياسات, من أبرزها: هل هناك طريقة واحدة لفهم العالم؟ هل يمكن التنظير للدولة بمعزل عن السوق؟ هل يمكن التنظير للمجتمع المدني بعيدا عن رؤية مخاطر السوق وبعيدا عن رؤية الثقافة المجتمعية؟ هل توجد' روشتة' ديمقراطية واحدة؟ كيف يمكن إعادة النظر في حدود الدولة وحدود السوق؟ ما هي' قواعد اللعبة الجديدة' التي يمكنها أن تتعامل مع الانتماءات المتشابكة للبشر ومصالحهم التي قد تتعارض؟ هل مواثيق الشرف الاخلاقية وحدها يمكنها أن تنظم التعارض والتضارب في المصالح وفي سياق رأسمالية متوحشة عابرة للحدود؟ من أهم ما يمكن طرحه في هذا السياق هو المراجعة النقدية لجانب من الأدبيات التي سبق أن قدمت تنظيرات مهمة للتحول الديمقراطي والتوقعات العريضة من المجتمع المدني, وهنا أشير إلي أهم ثلاثة أفكار خضعت لإعادة القراءة والنقد والتحليل في ضوء المتغيرات العالمية والإقليمية: الفكرة الأولي: إن الأدبيات الغربية وبعض الكتابات العربية, تقدم تنظيرا يتبعه افتراضات تقود الممارسة- بأن المجتمع المدني قادر علي التأثير الجوهري في عملية التحول الديمقراطي.. ويتم التنظير لهذا الدور بمصطلحات ليبرالية, تنحي الثقافة والظروف الاقتصادية والاجتماعية جانبا.. هذه الفكرة تتم مراجعتها, بعد ما تبين أن المجتمع المدني ليس هو' العصا السحرية' التي ستغير الواقع, وها هو المؤتمر العالمي( في البحر الميت- الأردن) الذي يجمع أبرز من قدم تنظيرات وتحليلات للمجتمع المدني والتحول الديموقراطي, يراجع ويقيم الأدوار الفعلية للمجتمع المدني, في ثقافات وسياقات اقتصادية واجتماعية مختلفة, ليعلن صعوبة انطباق الفرضيات الغربية, في سياق ثقافي وقيمي وسياسي, يختلف إلي درجة كبيرة عن السياق الليبرالي الغربي... وإلي جانب ذلك تراجع مؤسسات التمويل العالمية انعكاسات التدفق المالي غير المسبوق, لدعم المنظمات الحقوقية في المنطقة العربية, وأصبح السؤال المطروح هو ما حدود تأثير منظمات المجتمع المدني في عملية التحول الديمقراطي في المنطقة العربية؟ الفكرة الثانية: إن كلا من السوق والدولة قد اسهم في خلق تفاوتات واسعة بين البشر, داخل نفس المجتمع, وبين مجتمعات العالم, ويصبح الأمر محل المراجعة النقدية, هو هل يمكن لدولة القانون أن تعالج هذه التفاوتات وعمليات الاقصاء والتهميش؟ وهل الديمقراطية تتحقق بمعزل عن قوي السوق وعن الدولة؟ وهل تستطيع الدولة التدخلية إدارة مصالح المجتمع, في نظم رأسمالية جشعة؟ هناك مراجعة نقدية قوية لمفهوم وممارسات حماية مصالح المجتمع, فقد أحدثت العولمة والمصالح الاقتصادية الكبري للفئات الرأسمالية انشقاقات كثيرة, وارتبط بعضها بقوة بمصالح في الخارج, ومصالح مع بعض القوي الفاعلة في الداخل, وذلك علي حساب المجتمع, ومفهوم المصلحة الوطنية. الفكرة الثالثة: إذا كانت قيم الثقافة المدنية, التي تعتمد علي التسامح والحوار الديمقراطي وقبول الاختلاف, هي متطلبا رئيسيا لتحقيق التحول الديمقراطي, فإن ذلك يقود إلي رؤية المجتمع المدني كآلية رئيسية لنشر الثقافة المدنية, ويقود إلي توقعات كبري بأن توفر منظمات المجتمع المدني بديلا اخلاقيا عن المصلحة الذاتية, وتأسيس تقاليد الاحترام المتبادل, والعمل الجماعي والممارسة الديمقراطية.. في هذا السياق فإن هناك مراجعة نقدية لمثل هذه الفرضيات والأفكار, لأن أي مجتمع مدني في العالم, هو نتاج أو محصلة ثقافة سياسية ومنظومة قيمية, وسياق اقتصادي وسياسي, ومن ثم يصبح المجتمع المدني ذاته- وهو كيان غير متجانس- يعاني من نفس الأمراض المجتمعية, وهو كما أشار البعض' لا يضم ملائكة'.. الخلاصة إذن أن هناك مراجعات نقدية تتم في محافل ومنتديات متعددة, لأفكار وفلسفات وتوجهات, تم تبينها ثم تعميمها, هي الآن محل تقييم وإعادة قراءة في ضوء الواقع, وما كشفت عنه المتغيرات والأحداث, في العقد الأول من الألفية الثالثة.. هذه المراجعات مهم أن تبدأ بمبادرات عربية, وأن تضطلع الجماعة الأكاديمية بأدوار مهمة, وتقود إلي عقل نقدي, قد ينجح في توجيه النشطاء والسياسات نحو مسارات يمكن التأثير فيها. لم يعد من المقبول إلا أن نشارك في المراجعة النقدية للأفكار والسياسات, التي أثرت بعمق في التوجهات السياسية والاقتصادية لنا عبر العقدين الماضيين, ولم يعد من المقبول أن الغرب الذي' صدر' لنا هذه الأفكار والسياسات, هو الذي يبادر بالمراجعة والقراءة النقدية, ونحن مازلنا مستوردين.. المزيد من مقالات د. أماني قنديل