أكتب إليك رسالتي بكل ما فيها من حقيقة مرة أعيشها وأتعذب بها ليل نهار, فما أصعب أن يوضع أحد في هذا الوضع العصيب الذي أعيشه, ودعني أروي لك قصتي كاملة لكي تتبين الجوانب الأخري في حياتي والتي أوصلتني إلي ما أحياه الآن. فأنا مهندس في أواخر العشرينيات.. توفي أبي وأنا في سن صغيرة, وكان فارق السن بينه وبين والدتي كبيرا جدا, فوجدت نفسها أرملة وهي لم تكمل الثلاثين بعد, مما دفعها للدخول في مغامرات عاطفية كثيرة, ولجأت إلي الزواج العرفي تارة, والسري تارة أخري, وسارت حياتها علي هذا النحو, ولم تكن لدينا مشكلة مادية, فلقد ترك أبي لنا ثروة كبيرة, فالتحقت بالجامعة الأمريكية وعايشت التجارب المؤلمة لوالدتي برغم أنها كانت تخفي عني ما تفعله, وتخرج من البيت بحجج واهية, وأحيانا كانت تأتي بمن تتزوجه في غيابي. ومرت الأيام وأنا كاظم غيظي, ولا حول ولا قوة لي معها, وتخرجت في كلية الهندسة, والتحقت بوظيفة كبري في محافظة ساحلية, فوجدتها فرصة للبعد عنها ولو بضعة أيام, فالحقيقة أنها علاوة علي موضوع الزواج السري, ترتدي الملابس المثيرة, وتصبغ وجهها بكل ألوان الطيف.. وكنت أجد حرجا من زملائي عندما ينظرون إليها, إذ تعلو وجوههم علامات الدهشة والاستغراب. وحاولت الاقتراب من أسرة أبي, بعد أن قاطعونا بسبب تصرفات أمي لكنني وجدت منهم جفاء شديدا, بل إنهم لم يحسنوا استقبالي, وقالوا لي كلمات لاذعة عن أمي, فخرجت من عندهم أتصبب عرقا, وخلوت إلي نفسي وبكيت كثيرا, ثم اتخذت قرارا بأن أهاجر إلي المحافظة التي أعمل بها, وبالفعل اشتريت شقة فيها وحصلت علي سيارة بالتقسيط من خلال عملي, وأصبح لي عالمي الخاص من العمل إلي البيت, ومن البيت إلي العمل, وركزت كل جهدي فيه ونلت تقدير رؤسائي. وجذبتني زميلة لي برقتها وعذوبتها وروحها الجميلة, فتعرفت عليها ودارت بيننا حوارات كثيرة, وتأكدت أنها الفتاة المناسبة لي, وشاورت عمي في الموضوع, فناقشني فيه كثيرا, ولما اقتنع برغبتي, وبأسرة فتاتي حدد لي موعدا لزيارة أسرتها, وأبلغتها به, وكان الجميع في استقبالنا, وكانت لحظة جميلة شعرت فيها بالدفء الأسري, ومنيت نفسي بحياة مستقرة وسعيدة. ولما سألوني عن والدتي أخبرتهم بأنها مسافرة, وعدت إلي بيتي, وأنا أفكر في الأمر.. وطلبت والدتي وحكيت لها ما حدث, فلم تسألني عن العروس ولا عن أهلها وباركت خطوتي, وقالت إنها سوف تحضر حفل الخطبة, فوجدتني ألح عليها بأن تغير طريقة ملبسها ومظهرها علي الأقل أمام أسرة فتاتي, وألا تتحدث كثيرا معهم فوعدتني بذلك!! وجاء يوم الخطبة, وبينما كنت أجلس في الكوشة مع خطيبتي دخلت أمي, وكان مظهرها العام لا بأس به استجابة لما وعدتني به, لكن المفاجأة أن نظرات الحاضرين اتجهت صوبها, وبدت علامات الغضب ممزوجة بالدهشة علي وجوه من حولنا, حتي أمي نفسها اصفر وجهها, وتغيرت معالمه من الضحك إلي العبوس, ومضت نحوي بخطوات سريعة, وسلمت علي وهي مضطربة وبدت وكأنها لا تعرفني. وقبل أن أخبر خطيبتي بأنها أمي باغتتني متسائلة: من هذه السيدة؟ وما صلتك بها؟ لقد تزوجها ابن عمي سرا وكانت العصمة في يدها.. ولما افتضح أمرها, ضغطت العائلة عليها لتطليقه فلم توافق ودخلنا في صراع معها حتي أجبرناها علي الطلاق.. سمعت كلماتها ولم أرد.. وضاعت الفرحة من قلبي طوال الحفل! لقد خرجت أمي سريعا, ولكن تداعيات حضورها لم تنته حتي الآن, ومازالت تلاحقني فضائحها, وألاحظ تحفظا كبيرا من أهل خطيبتي في تعاملهم معي مع أنهم لم يعرفوا بعد علاقتها بي, وربما بلغت بهم الظنون إلي حد أنني أحد الشباب الذين اصطادتهم, ولا أدري ماذا سيكون موقفهم لو علموا أنها أمي؟ لقد قتلني التفكير ووصلت إلي حالة احباط شديدة, فهل أجد لديك حلا لما أنا فيه؟! * أخطر آفة تصيب أي أسرة هي انصراف الأب والأم أو كليهما إلي ملذاتهما وحياتهما الشخصية دون اعتبار لما يترتب علي سلوكهما من تدمير لابنائهما, وضياع لسمعتهما بين الناس, فالأب الذي يترك أسرته ويبحث عن علاقات نسائية لايختلف عن الأم التي تصنع نفس الصنيع, فتصاحب الرجال, وتصطاد الشباب طلبا لمتعة زائلة, فينشأ الأبناء ضحايا لهذه البيئة الفاسدة, وينظر الآخرون إليهم نظرة دونية مهما بلغوا من درجات العلم والأخلاق وحسن السلوك. وأنت واحد من أمثال هؤلاء الأبناء الضحايا, فعندما تزوج والدك الراحل من والدتك كان فارق السن بينهما كبيرا, وربما وافقت عليه والدتك مرغمة من أهلها من منطلق أنه ثري وسوف يضمن لها حياة مستقرة, وبالتالي لم تشعر بشبابها وأنوثتها مثل البنات ممن هن في مثل سنها, وما إن رحل عن الحياة, حتي التفتت إلي نفسها وجمالها, فراحت تبحث عمن يعوضها عن حرمانها من السعادة الزوجية مع الشباب صغار السن, وانجرفت إلي هذا السلوك حتي بعد أن بلغت الخمسين من عمرها, وبأموال أبيك راحت تتزوج واحدا بعد الآخر, وهكذا صارت الحياة الزوجية بالنسبة لها لعبة تتسلي بها, وتغير الأزواج بعد أن تنال منهم حاجتها. ودارت الأيام, وجاء يوم خطبتك لتعيش هذا المشهد المؤلم أمام المدعوين من أهلك, وأهل فتاتك, وإذا كنت قد التزمت الصمت أمام سؤال فتاتك عن حقيقة هذه السيدة, فإنك لن تستطيع أن تخفي ذلك إلي الأبد, فحتما سوف تعلم يوما الحقيقة المرة, ولا سبيل أمامك لتجاوز ما حدث إلا بالحديث الصريح والمباشر مع أسرة من ارتبطت بها بالاستعانة بعمك الذي ساندك في خطبتها, فهو رجل عاقل, ويستطيع أن يستوعب غضب أسرتها من والدتك لما صنعته, وما ارتكبته في حقكم جميعا. ولتعلم أسرة فتاتك أنها تشتري مهندسا شابا يحترمه الجميع, ويشيدون بأخلاقه, وأنه إذا كانت أمك قد أخطأت ببعض التصرفات الطائشة فإن ذلك ليس ذنبك, ويكفيك أنك اتخذت موقفا قاطعا بالحياة بعيدا عنها. علي جانب آخر.. أرجو أن تكون والدتك قد تعلمت الدرس مما حدث, وأن تعيد النظر في تصرفاتها وهي في هذه السن المتقدمة, وكفاها استهتارا بالعادات والتقاليد والأخلاق.. وكفاها أيضا ما سببته لك من آلام. عليها أن تكف عن هذا السلوك الذي ينتقص منها, فلكل سن جلالها واحترامها.. ولتكن البداية بالملابس المحتشمة والمكياج الهادئ الذي يجعل الناس يغيرون نظرتهم إليها, ويشعرون بأن شيئا فيها قد تغير, وأنها عادت بالفعل إلي رشدها. ولكل الآباء والأمهات أقول: رفقا بالأبناء, فهم يتخذونكم قدوة, ويسيرون علي دربكم, ولذلك قيل من شابه أباه فما ظلم فكل تصرف تكون له انعكاساته علي الأبناء, وكذلك السلوك العام والأخلاق ونظرة الآخرين.. فالإنسان لا يعيش لنفسه فقط, وإنما يعيش أيضا لأبنائه فيربيهم تربية صالحة, ويوجههم التوجيه السليم, وينير لهم طريق الصواب.. أما الآباء الضالون فيجنون علي أبنائهم الذين قد لا يجدون من ينتشلهم من عالم الضياع فيسقطون فيه! وأخيرا.. عليك يا سيدي أن تثق بنفسك وقدراتك, وأن تأمل في الله خيرا.. وأسأله أن ينير لك الطريق.. وهو عز وجل علي كل شيء قدير.