كان محمد علي مؤسس مصر الحديثة هو بحق رائد العلمانية في الشرق, كما أوضحت في مقالي السابق, وأول من تنبه إلي ضرورة فض الاشتباك بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة, حيث إن لكل منهما مجالا مختلفا عن الآخر. وكانت العلمانية هي الباب الملكي الذي أتاح لمصر أن تخرج من سباتها العميق وتتحول إلي دولة لها مكانة مهمة علي الساحة الدولية. وكان هناك تفاعل خلاق بين سياسات الوالي محمد علي وأفكار رفاعة الطهطاوي باعث النهضة العربية الحديثة, الذي وضع الأسس التنظيرية للمجتمع الجديد الذي سعي لإنشائه حاكم مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وعندما ذهب الطهطاوي إلي فرنسا من6281 إلي1381 وضع كتابه الشهير تخليص الإبريز في تلخيص باريز وضمنه ترجمة حرفية لميثاق الدولة الفرنسية الذي أطلق عليه بالعربية اسم الشرطة وهي كلمة فرنسية تعني الميثاق. وفي فصل في تدبير الدولة الفرنساوية بهذا الكتاب يعلق رفاعة علي هذه الشرطة قائلا: وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالي ولا في سنة رسوله ثم يضيف: فلنقل إن أحكامهم القانونية ليست مستنبطة من الكتب السماوية. وعلي الرغم من ذلك فهو يدعو صراحة للأخذ بما فيه حيث يقول: ليكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن يعتبر. وكانت هذه هي المرة الأولي التي يجتريء فيها أحد علي المطالبة بتشريع قوانين وانتهاج أسلوب للحياة العامة خارج إطار الدين. وقد خطا الوالي محمد سعيد بن محمد علي خطوة حاسمة لترسيخ أسس الدولة المدنية كما قلنا بالمقال السابق عندما أقدم علي إلغاء الجزية المفروضة علي أقباط مصر عام5581, فانخرطوا في صفوف الجيش المصري للدفاع عن الوطن مثلهم مثل إخوانهم المسلمين. ومن عباءة الطهطاوي ظهرت أجيال من كبار المفكرين وقادة الرأي يدينون بنفس الفكر الذي يبحث في كيفية تنظيم حياة المجتمع من خلال القوانين الوضعية والمصالح المادية للناس, وانفتحت مصر ثقافيا علي العالم الغربي مع رفضها الانصياع السياسي له. وقام قادة الرأي الجدد بتعبيد طرق كانت مجهولة تماما قبل ذلك, ونادوا بقيم مثل الديمقراطية التي دعا إليها الكواكبي وأحمد لطفي السيد وغيرهما, وطالب قاسم أمين بتحرير المرأة كما كان علي مبارك والشيخ محمد عبده من أشد المؤيدين لفكرة تطوير وكانت صيحة علي عبد الرازق في كتاب الإسلام وأصول الحكم عام5291 بمثابة إعلان رسمي عن ضرورة قيام الدولة المدنية. وقد فند في هذا الكتاب كل الدعاوي التي كانت تستند إليها القوي السلفية للمطالبة بعودة الدولة الدينية. ونعود للسؤال الذي طرحته في نهاية مقالي السابق: ما الذي استجد لتغيير كل هذه المفاهيم وعودة فكرة الدولة الدينية واعتبار العلمانية رجسا من عمل الشيطان؟ وبصراحة أكبر: ما الأسباب التي أدت إلي الانتكاسة التي يعيشها العالم العربي حاليا؟ وبداية الإجابة هي أنه منذ انكسار المشروع القومي وتحديدا منذ هزيمة يونيو7691 هبت علي مصر والعالم العربي رياح عاتية أدت إلي إعادة عقارب الساعة إلي الوراء وظهور دعاوي إخضاع الدولة للدين وهي دعاوي باطلة, لأن تفسير الدين في مجال السياسة كان دائما حكرا علي الحاكم وبطانته. وواقع الأمر أن إشكالية العالم العربي والإسلامي تكمن في المواجهة التاريخية مع الغرب ولا يمكن تفسير الظواهر السياسية والاجتماعية فيه دون الالتجاء لمرجعية العلاقة مع الغرب. وقد ظلت النخب العربية طوال القرنين الماضيين متأرجحة بين الكراهية السياسية لأوروبا والغرب عموما من ناحية, والإعجاب بالتقدم الكبير الذي احرزته المجتمعات الغربية من ناحية أخري. وبعد مرحلة تصفية الاستعمار اتخذت المواجهة مع الغرب شكلا لم يكن متوقعا مع ظهور دولة إسرائيل ومساندة الدول الغربية الكبري غير المشروطة لها. وكان رد الفعل التلقائي للهزيمة لدي المجتمعات العربية هو التقوقع والعودة إلي النموذج التقليدي, وهو الدولة الدينية التي وقفت لمدة قرون طويلة أمام محاولات الهيمنة الغربية منذ الحروب الصليبية وحتي بداية مرحلة الاستعمار. ومن رحم الهزيمة ولدت فكرة إحياء الدولة الدينية علي أساس أنها تمثل الحل الأوحد لاستعادة الكرامة المفقودة والأمجاد التليدة. فالهوية القومية أصيبت في مقتل عندما اضطررنا للإذعان ولم يجد الحكام العرب بدا من قبول التنازلات أمام ضغوط الغرب الرهيبة. وقد نتج عن هذا الموقف الغربي الظالم جرح غائر في نفس كل عربي حتي وإن كانت القضية الفلسطينية قد انزوت من أولويات الشعوب نظرا لظهور مشكلات اقتصادية وحياتية أصبحت تنغص حياة الناس وتحول أنظارهم واهتماماتهم عن تلك القضية العادلة. وبالتأكيد إن ذلك كان جزءا من مخطط مدروس لكسر شوكة المساندة الشعبية العربية للقضية الفلسطينية. لكن هذا الإذعان السياسي للأمر الواقع كان له أثر الزلزال علي الشعوب العربية. وأصبحت الهوية الدينية بالنسبة للشعوب هي الركيزة الوحيدة التي تمنح بعض الأمل والاستبشار. واقتنع كثيرون بأن البعد عن الدين كان أهم أسباب الهزائم المتكررة أمام إسرائيل. ومع نمو التيارات التي اتخذت من الدين ستارا للوثوب إلي الحكم بدأت العلمانية تتحول إلي كلمة شيطانية لأنها تمثل النموذج المضاد للدولة التي يحكمها الدين أو بمعني أدق يسوسها حاكم ديكتاتوري باسم الدين. وأصبح من يستخدم تعبير العلمانية يوصم بأشنع الصفات فاختفت هذه الكلمة من قاموس العرب طوال ربع القرن الأخير. لكني أستشعر أن حملات التخويف من العلمانية قد خفت بعض الشيء. وقد شاهدت في الأسبوع الماضي حلقة رائعة من برنامج أهل الرأي للإعلامية الكبيرة درية شرف الدين حول موضوع العلمانية لو أذيعت منذ عشر سنوات لقامت الدنيا ولم تقعد. وأثلج صدري أنه كان لهذه الحلقة صدي إيجابي لدي أوساط عديدة. وفي المقال المقبل والأخير سوف أحاول إقامة الدليل علي أن العلمانية هي شرط مسبق لتطور المجتمعات في المرحلة المقبلة.