أوضحت في مقالي السابق كيف نجحت التيارات السلفية والمحافظة في فرض قاموسها السياسي علينا وتخويفنا وترويعنا من مصطلح العلمانية, حتي صارت الغالبية اليوم مقتنعة بأنه مرادف للكفر والزندقة والعياذ بالله. واستأذنك أيها القارئ الكريم في الخلفية التاريخية التالية التي لا مناص منها لإدراك المغزي الحقيقي للفظ العلمانية. منذ العصور القديمة التجأ غالبية الحكام في كل مكان إلي المرجعية الدينية لإضفاء الشرعية علي أنفسهم وضمان موالاة الشعوب فأقحموا الدين في السياسة وخلطوا الأوراق من أجل تحقيق مآربهم الدنيوية, وانصاع الناس لهم اعتقادا بأنهم ظل الله علي الأرض. وكان فراعنة مصر القديمة من أوائل من أصلوا لهذه النزعة وجعلوا منها منهاجا للحكم. وكانت العلمانية رد فعل مناهض لاستغلال الدين من قبل الحكام. ولعل الجذور البعيدة للفكر العلماني تعود إلي عصر النهضة الأوروبية, حيث نما تيار فكري يرفض هيمنة الكنيسة الكاثوليكية علي الحياة السياسية ومباركة المؤسسات الدينية لعملية استغلال الدين من أجل سيطرة الحكام علي شعوبهم. ثم جاءت الثورة الفرنسية فكانت خطوة كبيرة فتحت الطريق للمجتمعات الإنسانية لكي تتحكم في مصيرها الدنيوي. قد يحتج البعض, ولهم الحق في ذلك, بأن الحضارة العربية لم تعرف كنيسة مهيمنة ولم تعرف لاهوتا مؤسسيا في أي وقت من الأوقات. لكن منابع الحكم ومصادره بعد حقبة الخلفاء الراشدين الزاهرة كانت دائما تقوم علي الدين وكان الخليفة يحمل في ذاته صفتين متلازمتين: الأولي هي صفة الإمام أي أنه الزعيم الديني والمشرع الأول للقوانين, والثانية هي الصفة الدنيوية أي أنه صاحب السلطة التنفيذية والمتحكم في مصير الأمة والعباد. لكن المشكلة هي أنه بعد غياب الوحي بانتقال الرسول إلي الرفيق الأعلي أصبح الدين خاضعا لتفسير الحاكم ولأهواء الزمرة المحيطة به. وكان الخليفة في الدولة الأموية ثم العباسية ثم العثمانية يحظي بمكانة فوق البشر وكأنه لا ينطق عن الهوي. كان هو الذي يفسر إرادة السماء وكان يخضعها دائما لمصالح دولته ويطوعها لأهدافه, ومن يخرج عليه فقد خرج علي الدين وعلي إرادة الله سبحانه وتعالي. وظل الصراع علي الحكم طوال عصور الدولة الإسلامية ملوثا ببحار من الدماء لأن المطامع الدنيوية كانت تتخذ الدين ستارا وتكئة علي يد جميع الأطراف. وقد تعرض غالبية الذكور من آل البيت الطاهر من أحفاد النبي للذبح والتنكيل جيلا بعد جيل لأنهم كانوا يطالبون بحقهم في تولي الحكم. كما قامت مجازر ضد الشيعة والخوارج والقرامطة والزنج والمرجئة وغيرهم بدعوي الدفاع عن دين الله. وفي رأيي أن أول حاكم تنبه إلي ضرورة تنزيه الدين ورفعه فوق مطامع الحكم الدنيوية كان محمد علي الذي تولي حكم مصر من1805 إلي.1848 ولا شك أن صدمة الاحتلال الفرنسي خلال حملة بونابارت عام1798 ساعدت كثيرا في إدراك محمد علي لأهمية الفصل بين كل ما يتعلق بشئون الحكم والسياسة من ناحية, وما يخص الدين من ناحية أخري. وأدرك محمد علي أن تحقيق التقدم والتطور في مصر يستلزم اللجوء إلي الغرب الذي تفوق علي الصعيد المادي والتكنولوجي والعسكري والعلمي.. فأرسل البعثات إلي بلاد الكفار وخاصة فرنسا وإيطاليا لتنهل العلم والمعرفة, وهو أمر لم يكن واردا قبل محمد علي حيث كان كل ما يأتي من خارج العالم الإسلامي يعتبر هرطقة أو بدعا ترقي إلي مستوي الكفر. وفي رأيي أن اللحظة الفارقة في التحول من الدولة الدينية إلي الدولة العصرية في مصر كان عام1855 وهو العام الذي ألغي فيه الوالي محمد سعيد الابن الأصغر لمحمد علي باشا قانون الجزية التي ظلت مفروضة علي أقباط مصر لأكثر من1200 عام. وتقرر كنتيجة طبيعية لذلك إشراك الأقباط في صفوف الجيش المصري. والواقع أن محمد سعيد قام بتقنين وضع قديم, وهو أن الحروب أصبحت تخاض في سبيل الوطن, وأن الجهاد الحربي في سبيل الله كان يتم في عصر محدد وهو الذي كان فيه الكفار يسعون إلي اقتلاع الإسلام من الوجود, وقد فشلوا في ذلك فشلا ذريعا ولم يعد هناك أحد في العالم يفكر أو يستطيع القضاء علي الإسلام حتي وإن كان هناك من يناصب العداء لديننا ويضمر له البغضاء. وكان كل زعماء الوطنية من مصطفي كامل إلي محمد فريد وسعد زغلول يدينون بالفكر العلماني من هذا المنطلق. فهم لم يطالبوا الشعب بالثورة علي الانجليز لأنهم كفار وأن الكفاح ضدهم هو بمثابة كفاح في سبيل الله, بل كانوا يحرضون الشعب علي النضال من أجل الاستقلال من ربقة المستعمر الأجنبي, سواء أكان مسلما أو غير مسلم وكانوا ينادون بالكفاح في سبيل الوطن. وجاء دستور1922 ليكرس مبادئ العلمانية وتساوي جميع المواطنين أمام قوانين الدولة أيا كانت دياناتهم. وربما كانت الحرب العالمية الأولي التي تأججت فيها المشاعر الوطنية والقومية في العالم لحظة حاسمة في طريق التحول من الدولة الدينية إلي الدولة العصرية. فقد كان هناك اتجاه في العالم أجمع لوضع حد للدولة الدينية التي كانت تقف حائلا أمام التطور والازدهار الحضاري, فسقطت الامبراطورية النمساوية المجرية في الغرب وألغيت دولة الخلافة في الشرق علي يد مصطفي كمال أتاتورك في عام.1924 وعلي الرغم من أن مصر وهي قلب العالم العربي قد اختارت مبدأ العلمانية منذ بداية القرن العشرين فقد ظلت دول عربية كثيرة تحافظ علي فكرة الدولة الدينية, خاصة بالخليج وكذلك باليمن حتي اندلاع الثورة هناك علي الإمام وإعلان الجمهورية. ولم ترتفع أي أصوات تعارض العلمانية في مصر بدعوي أنها مناقضة للدين, واقتنع الكل بأن الدين لله والوطن للجميع. وكانت مدارس الليسيه الفرنسية تسمي البعثة العلمانية الفرنسية منذ دخولها مصر في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين, وما زال هذا الاسم محفورا حتي الآن علي جدار مدخل هذه المدرسة في باب اللوق. ولو كانت كلمة علمانية مرادفة للكفر لما قبل أحد في مصر مثل هذه التسمية لأهم مجموعة مدارس أجنبية في بلادنا قبل الثورة وحتي منتصف الخمسينيات. فالمصريون آنذاك لم يكونوا أقل إيمانا منا لكنهم لم يعرفوا المزايدة والغلو واستخدام الدين لأغراض دعائية. فما الذي تغير؟ ما الذي استجد حتي يصطبغ مصطلح العلمانية بصبغة شيطانية تجعله كلمة يثيرون بها الذعر في قلوب الناس؟ هذا ما سوف أحاول أن أجيب عنه في المقال المقبل.