سوف يمر وقت قبل أن تصبح الانتخابات في بلادنا عملا سياسيا خالصا, نتخلص فيها من العشائرية والمصالح الفردية الضيقة, أو حتي نقلل من تأثيراتها إلي الحدود الدنيا. لابديل عن حياة حزبية صحيحة, يعبر فيها كل حزب عن جماعات سياسية حقيقية, تشهد معها ساحة العمل السياسي رؤي وبرامج تثري معارفنا وتجاربنا, وتطرح بدائل مختلفة لمواجهة مشكلاتنا, حياة حزبية تدفعنا إلي احترام آراء الناخبين ونتائج الانتخابات دون شطط الاتهامات المرسلة والتعميم الخاطئ لبعض التجاوزات علي العملية الانتخابية برمتها. انتهت الانتخابات بما لها وما عليها. ولكنها تبقي دروسا لمختلف اللاعبين السياسيين الفائزين والخاسرين معا. وبغير أن يستفيد هؤلاء مما جري, فإننا نظل نراوح مكاننا, ولاندفع بتجربتنا السياسية خطوة إلي الأمام. لن يفيدنا في شيء أن نستمر في إهالة التراب علي تلك التجربة وأن نتشدق بتجاوزات هنا أو هناك, لنغتال حدثا شعبيا بهذا الحجم بدعاوي التزوير وشراء الأصوات وتسويد البطاقات. وهي دعاوي شائعة الاستخدام في كل انتخابات, مهما تكن نتائجها. لقد انتهت الانتخابات ولن يفيد التلاسن بين الفائزين والخاسرين. ففي هذا التلاسن تغيب الحقيقة مع تمسك كل فريق بما يقول. ما تحتاج إليه اليوم هو أن ندرس ما وقع بهدف استخلاص أساليب عمل جديدة, تزيد مكاسب الذين فازوا وتساعد الخاسرين علي الفوز في التجارب المقبلة. وفي طليعة المدعوين للاستفادة من تلك التجربة الأحزاب السياسية التي خاضت الانتخابات أو تلك التي قاطعتها. اللافت للنظر أن التلاسن والاتهامات المتبادلة تجاهلت واحدا من المكاسب الكبري في الانتخابات الأخيرة. هذا المكسب هو حصار الآفة الكبري في الحياة السياسية المصرية من العوار الذي أصابها, بتحجيم الوجود السياسي لجماعة محظورة تسللت إلي الساحة السياسية, تحت رداء المستقلين تحت سمع وبصر الجميع, بل تطلعت بشدة إلي ما هو أكثر من الفوز بعدد من مقاعد البرلمان. ربما تصدر الحزب الوطني جهود إقصاء تلك الجماعة ولكن خبرات كثيرة كانت قد تراكمت لدي الناخب المصري طوال السنوات الخمس الماضية غيرت من صورة هذه الجماعة ومساعي أعضائها. فلم تعد تلك الجماعة في الانتخابات الأخيرة علي حالها الذي تمتعت بها في انتخابات عام2005, سنوات خمس وتلك الجماعة تشغل ثمانية وثمانين مقعدا في البرلمان ولم يفعلوا شيئا. وجر نواب هذه الجماعة المجلس والمجتمع إلي قضايا لاتعني المواطن المصري ولاتعبر عن همومه وآماله. كان بوسع الأحزاب السياسية أن تحتل المساحات التي تراجعت عنها تلك الجماعة لتثري الحياة السياسية وتقدم رؤاها الواقعية لمشكلات المجتمع. غير أن شيئا من ذلك لم يحدث. فالانتخابات يبدو وكأنها فاجأت تلك الأحزاب فخاضتها بدون القدر اللازم من الاستعدادات, فلم تحقق شيئا لنفسها أو حتي للمجتمع الذي تعمل من أجله. وكذلك جاءت الانتخابات لتكشف عن حاجة حقيقية لحوار سياسي فاعل وبناء بين الأحزاب السياسية, حوار يكون بديلا عن الاتهامات المزمنة والمرسلة, وبديلا عن اللجوء للمحاكم واستخدام وسائل الإعلام في بث السخط علي الحياة السياسية. فالتناحر الحزبي الراهن لن يكون له سوي نتيجة واحدة, وهي استمرار الوضع الراهن للأحزاب وعزلة المواطن عن المشاركة السياسية وتجاهلها. لقد جربت الأحزاب ولسنوات طويلة خطاب الاحتجاج والاتهامات ولم تحقق به شيئا ولم تكف عنه ولم تتوقف عن استخدام مفرداته. لابد أن تبحث عن بديل يحقق تغييرا حقيقيا علي الساحة السياسية, ويمكنها من الوجود الفاعل وتحقيق تمثيل نيابي أكبر. وليس هناك أنجع من حوار جاد ومسئول بين تلك الأحزاب وحزب الأغلبية ينطلق من هدف واحد يقف الجميع منه موقفا متساويا. ولابد أن تصمد الأحزاب في ذلك الحوار وتطالب من خلاله بحقوقها وكل ما يمكنها من العمل, بدلا من المطالبة بذلك عبر وسائل الإعلام. ومثل ذلك الحوار يتطلب ترتيبات واستعدادات داخل الهياكل الحزبية ذاتها حتي تكون أفكارها المطروحة محل إجماع حزبي بين الأعضاء, وليست مرئيات القيادات المشاركة وحدها. أعلم أن هناك تجارب سابقة من الحوار, ولكن ليس هناك بديل والمهم أن نبحث عن ضمانات نجاح الحوار بدلا من رفضه. والحزب الوطني نفسه مطالب بتقديم ضمانات النجاح من حيث هو حزب الأغلبية, والذي تشير إليه الأحزاب الأخري دوما بأصابع الاتهام وتحمله المسئولية عن إضعافها. لقد نجحنا جميعا في الانتخابات الأخيرة في تنقية المناخ السياسي من آفته الكبري. وبقي أن نعمل معا من أجل حياة حزبية صحيحة تستوعب تيارات المجتمع المختلفة ونقدم تجربة ديمقراطية محفزة لمحاولات شعوب أخري تري في مصر ريادة حقيقية. .................................................... ومن الضروري أيضا أن تدرك الأحزاب أن مكاسب الحزب الوطني في الانتخابات الأخيرة لم تكن مصادفة أو اعتمادا علي نفوذ أو تجاوزات. بل هي مكاسب بدأ الحزب العمل لها بعد انتخابات2005 مباشرة. وضع الحزب أهدافا وعمل من أجلها فتمكن من تحقيقها. فالجميع يعلم أن الحزب الوطني هو الحزب الوحيد الذي استعد لتلك الانتخابات الاستعداد الواجب لها وقبل سنوات من إجرائها. وأن الاتهامات المرسلة لاتلغي حقيقة الجهود التي بذلت لتنظيم صفوف الحزب وتطوير آليات عمل جديدة علي كل المستويات. حظيت كل دائرة انتخابية بدراسة متأنية وطويلة الأمد وخضعت للمتابعة الدقيقة. أعيد ترتيب الهرم التنظيمي ونظمت انتخابات قاعدية حقيقية أفرزت قيادات جديدة, وطورت شبكات اتصال صاعدة وهابطة بين مختلف المستويات الحزبية, فاختصرت المسافات بين قيادات الحزب وقواعده. طور ونظم العديد من برامج التدريب لمختلف الكوادر. تمكن الحزب عبر حكومته من تغيير المناخ الذي ساد انتخابات2005, فقد طرأت تغييرات حقيقية علي مستويات حياة كثير من الكتل التصويتية من المدرسين والأطباء وموظفي الإدارة المحلية, وحاصر الحزب كثيرا من أحزمة الفقر في المجتمع. وبهذا كله كان لابد للحزب أن يحقق مكاسبه في انتخابات2010, لقد حصن الحزب أغلبية المصريين ضد دعاوي السخط واليأس التي ارتكزت إليها حملات الدعاية الانتخابية من المستقلين وغيرهم من مرشحي الأحزاب. كان ما تحقق في مصر الكثير وكان الوعي بما تحقق أعلي فلم تجد كثيرا حملات التشكيك في الإنجازات. .................................................... واليوم يواجه حزب الأغلبية مسئولياته, فالفوز الكبير يثير أيضا الكثير من المخاوف وهو التحدي الذي يواجه الحزب مع البرلمان الجديد. فالانتخابات أسفرت عن تركيبة تعليمية مختلفة. فالمؤهلون تأهيلا جامعيا يزيدون علي68% منهم46 عضوا يحملون درجة الدكتوراة وثلاثة عشر يحملون درجة الماجستير, بالإضافة إلي ثلاثمائة عضو جديد في الهيئة البرلمانية للحزب. هذا المستوي الجيد من التعليم يزيد فرص المجلس في القيام بوظائفه التشريعية علي النحو الذي تمليه المرحلة الراهنة من تحديث المجتمع المصري في جميع المجالات. وتبقي مشكلة الرقابة علي أعمال الحكومة. فالأغلبية التي تنتمي للحزب مطالبة بمراقبة حكومة الحزب وهذا هو التحدي الجديد, نحن نريد مصر أولا قبل الحزب الوطني أو غيره من الأحزاب. ومراقبة الحكومة واجب وطني تمليه الديمقراطية التي اخترناها سبيلا لتطوير الحياة في بلادنا علي كل المستويات. وهنا يبرز السؤال هل مراقبة الحكومة في البرلمان الجديد سوف تخضع للمصالح الحزبية أم لمصالح مصر. هناك تأكيدات من الأمين العام للحزب الوطني بأن المجلس الجديد المتميز بعضويته قادر علي ممارسة الرقابة باقتدار. فالحزب الوطني لم يعد يرتكز إلي أغلبيته ومكانته وإنما يرتكز إلي إنجازاته. وهذا هو الضمان لأن يمارس المجلس دوره الرقابي بكفاءة, حيث ينتفي التناقض بين ما يسعي إليه الحزب وبين ما تقتضيه مصالح مصر.