يبدو أن مقالي الماضي عصر ما بعد الديمقراطية نشر في25 نوفمبر2010 قد عالج عددا من الموضوعات الشائكة التي أثارت ردود فعل عديدة من القراء. فقد ثارت تساؤلات هل صحيح اننا نشهد عصر نهاية الايديولوجيا؟ وهل من الواقعي ان نزعم أنه نظرا لضعف الأحزاب السياسية المعاصرة فإن مؤسسات المجتمع المدني قد صعدت وزاد الاهتمام بها محليا واقليميا وعالميا, باعتبارها بحكم صلتها المباشرة مع الجماهير أقدر علي التعبير عن المشاكل التي يواجهونها وعن رؤاهم للعالم ومطالبهم من الدولة؟ وإذا كانت الأحزاب السياسية كما سبق أن ذكرنا تعبيرا عن الحداثة السياسية, فهل يجوز القول إن مؤسسات المجتمع المدني التي لا تصدر بالضرورة عن ايديولوجيات كلية أشبه بالأنساق الفكرية المغلقة هي التعبير الأمثل عما بعد الحداثة, التي ترفض هذه الأنساق المغلقة التي عادة ما تزعم انها تعبر عن الحقيقة المطلقة, وتفضل الأنساق الفكرية المفتوحة التي لا تري ضيرا في التأليف الخلاق بين متغيرات كان يظن من قبل انها لا يمكن ان تتآلف في بنية سياسية أو فكرية أو اقتصادية واحدة, كالعلمانية والدين, أو التخطيط الاقتصادي وحرية السوق! وما الذي عنيناه حين قررنا انه يبدو أننا سننتقل وان كان بعد حين إلي عصر ما بعد الديمقراطية, بعدما ثبت يقينا ان نظام التمثيل بمعني اختيار ممثلين في صورة نواب عن الجماهير لم يعد معبرا عن الواقع, بعدما تم احتكار السياسة لأصحاب المصالح المتنوعة؟ كلها أسئلة مشروعة, لأن غالبية الأفكار التي سقناها كانت أشبه بعناوين عريضة لا تشبع الفضول المعرفي للقراء, نظرا لضيق المساحة التي منعتني من التفصيل في كل فكرة مفردة. وقد تأكد لي ذلك حين طالعت تعليقات القراء المحترمين علي المقال علي شبكة الانترنت. وقد يكون من أفضال الحوار التفاعلي بين الكاتب والقراء والذي سمحت به الشبكة, انه يعطي من يكتب فرصة لتأمل ردود الفعل الفورية للقراء علي ما كتب, مما يعد فرصة مواتية له لكي يكتشف جوانب القصور أو التناقض في خطابه, أو علي العكس موافقة بعض القراء علي اطروحاته. لقد نشرت علي الشبكة خمسة تعليقات علي المقالة تفاوتت في أهميتها وفي النقاط التي أثارتها. وأبدأ بالتعليق الثالث للسيد الرفاعي عبد الحافظ لانه وجه لي انتقادات بالغة الحدة, وأثار نقاطا مهمة تستحق التأمل. وقد اقتبست من احدي عباراته المهمة وهي ثقافة الهوية عنوان مقالي الراهن, وذلك لأنه لم يقنع بالإشارة الي خطورة العولمة علي الهوية, ولكنه أكد ان هناك ما أطلق عليه ثقافة الهوية وهي مسألة محل نظر! وقد يكون من المناسب ان أورد نص تعليقه لكي أعطيه الفرصة كاملة لعرض وجهة نظره النقدية في مقالي, لأنني تعودت علي ان أرحب بالانتقادات التي توجه لأطروحاتي, سواء كانت معروضة في محاضرة أو مقالة أو كتاب. والعنوان الذي اختاره لتعليقه يكشف عن صلب نقده, وهو المهمشون ثقافيا بين عالمية التعليم واحتكار ثقافة الهوية. يقول نص التعليق مأساة النخبة الثقافية التي أتيحت لها الصدارة في المشهد الثقافي العربي أنها عبئت بإيديولوجيا دول المركز بحكم التعلم في فرنسا وأمريكا والاتحاد السوفيتي اعتقادا منهم بغباء ثقافة الهوية, ووفاء منهم لما عبئت به رؤوسهم التي فقدت القدرة علي الابتكار في إطار منظومة ثقافتهم, وصدعونا ليل نهار بتبريرات الفشل والفساد الذي نراه في العالم بسبب كل من الاشتراكية والرأسمالية في تطبيقاتهم, ولكننا كمثقفين تعلمنا في الغرب لم ندرك هذا إلا بعد أن أدركنا دورها وشرعنا كعادتنا نردد كالببغاوات ما يقولونه, كما رددنا ببلاهة ما قالوه عن عظمة الاشتراكية وعبقرية الرأسمالية حتي اعلان نهاية التاريخ هللنا, وعند اعلان نهاية الايديولوجيا زغددنا, ولم نخجل من أنفسنا ونحن نردد كالببغاوات ان ما بعد الحداثة تري امكانية التوفيق بين العلم الم نقل ذلك قلنا العلمانية وهناك فرق, والدين. ولكي نمنح أنفسنا شرعية القبول الموضوعي نذكر القراء بعلم اجتماع المعرفة وعلم الاجتماع الثقافي وكأننا بلا ثقافة أو هوية حضارية, فلسنا في العالم الثالث سوي قرود تقلد الغرب في التعظيم والتحقير, حقا نجح الغرب في ترسيخ مصطلح ثقافةالمركز الأوروبي وثقافة الأطراف, وهذا يشمل كل من عداهم, والتهم في هذا جوقة المثقفين الكبار الذين تلقوا العلم المستنير في جامعاتهم العالمية, وليس لهم من دور إلا ترديد ما يصرح به أساتذتهم من تعظيم أو تحقير للإيديولوجيا رأسمالية أو اشتراكية, ألا أيها الخجل أين حمرتك؟!. لقد حرصت علي إيراد النص الكامل لتعليق القارئ الكريم لأنه عينة ممثلة للاتهامات المرسلة بغير أساس, بالإضافة الي مشكلة التشوش الفكري والخلط بين الأوراق, والجهل المطلق بالتاريخ العلمي للكاتب وبإنتاجه الفكري. لا بأس, لأن القاريء الكريم فيما يبدو كان غاضبا غضبا شديدا حين أمسك بالقلم فاختطلت عليه كثير من الأمور. أولا بغض النظر عن تعلمنا في الجامعات المصرية والعربية أم في الجامعات الأجنبية, فالمحك ليس هو وطن الجامعة ولكن في قدرة من تخرج فيها علي ان يتبني منظورا نقديا إزاء المشكلات المعرفية التي يعالجها. وبالتالي يمكن القول ان خريجا للجامعة المصرية يمكن ان يتبني منهجا اتباعيا تقليديا يقوم علي النقل وليس علي العقل, ويمكن ان نجد خريجا من نفس الجامعة يتبني لأسباب شتي منهجا نقديا صارما. وقد ترجع رؤيته النقدية الي تكوينه الفكري الشخصي, أو الي التأثير المبكر لأساتذته. وعلي العكس يمكن ان نجد خريجا من جامعة اوكسفورد أو السوربون حيث يسود المنهج النقدي, غير انه لأسباب متعددة قد لا يستطيع ان يري العالم برؤية نقدية, وقد يتحول ليصبح أحد دراويش الصوفية أو أحد أقطاب السلفية, ونستطيع ان نري أمثلة عديدة لهؤلاء في المجتمع المصري, وليس وعكس ما يزعم القارئ الكريم كل من تعلم في الغرب أصم آذانه أو عقله عما في ثقافته. فالمثقف الحقيقي هو الذي يقرأ تراثه, ولكن بصورة نقدية مطبقا في ذلك المناهج المعرفية الجديدة ولا يكون مجرد مردد لكتابات القدامي الحافلة بالاساطير. وليس هناك مثقف مصري أو عربي حقيقي يعتقد كما يقول القارئ بغباء ثقافة الهوية! أولا ليس هناك ما يطلق عليه ثقافة الهوية, لأن الهوية كمفهوم تعبر عن انتماء الفرد لثقافة معينة لها سماتها المتميزة, ويتضمن رؤية محددة للعالم. وفات القارئ الكريم انني وكثير من المثقفين العرب أخذوا مواقف نقدية في كتاباتهم المنشورة ضد التطبيق السوفيتي للماركسية وفي وقت مبكر, وكذلك ضد الرأسمالية المتطرفة, وكان ذلك علي وجه التحديد في أواخر الخمسينيات حين عملت باحثا مساعدا بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام.1957 ولم يكن ذلك موقفي بمفردي, بل كان موقف جيل كامل من الباحثين الشباب الذين أخذوا موقفا نقديا من علم الاجتماع الأمريكي الوظيفي, وتبنوا علي العكس بعض مبادئ الماركسية وإن كان بشكل نقدي. ولسنا في حاجة لكي نحظي بشرعية القبول الموضوعي ان نستند في بعض كتاباتنا الي نظريات علم اجتماع المعرفة أو علم الاجتماع الثقافي, وذلك لأننا لا نرفض العلم الاجتماعي الحديث بسذاجة لكونه نشأ في الغرب, ولا نقبل أساطير الأولين لأنها نبعت من تراثنا! وهناك تعليقات أخري مهمة عن كون منظمات المجتمع المدني ليست بديلا عن الأحزاب السياسية, وقد أوافق علي ذلك, غير انه لابد ان نضع في الاعتبار ان الديمقراطية ليست نظاما سياسيا خالدا وسيبقي الي الأبد! وذلك لأن أمراض الديمقراطية في المجتمعات المختلفة قد برزت وتحتاج الي حلول جذرية وقد تكون دورة الحياة بالنسبة لها قد انتهت, واننا بصدد الانتقال الي عصر ما بعد الديمقراطية التي بدأت بعض ارهاصاته, وان كانت ملامحه مازالت غائمة وغير محددة. وقد يكون من المناسب ان نعالج هذا الموضوع المهم, لأنه يفتح آفاق الخيال السياسي الذي ينبغي ألا تحده حدود, ولا مواقف هؤلاء الذين يصرون علي أن يتعبدوا في كهوف الماضي السحيق!